يقول تعالى مخبرًا عن نوح ﵇: إنه أنهى إليه -وهو العليم الذي لا يعزب عنه شيء- أنه مع البيان المتقدم ذكوه، والدعوة المتنوعة المشتملة على الترغيب تارة والترهيب أخرى: أنهم عصوه وكذبوه وخالفوه، واتبعوا أبناء الدنيا ممن غَفَل عن أمر الله، ومتع بمال وأولاد، وهي في نفس الأمر استدراج وإنظار لا إكرام؛ ولهذا قال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾، قُريء: ﴿ووُلْده﴾ بالضم وبالفتح، وكلاهما متقارب.
وقوله: ﴿ومكروا مكرًا كبارًا﴾، قال مجاهد: ﴿كبارًا﴾، أي: عظيمًا. وقال ابن زيد: ﴿كبارًا﴾، أي: كبيرًا. والعرب تقول: أمر عجيب وعُجَاب وعجّاب، ورجل حُسَان وحسَّان، وجُمَال وجُمَّال، بالتخفيف والتشديد، بمعنى واحد. والمعنى في قوله: ﴿ومكروا مكرا كبارا﴾، أي: بأتباعهم في تسويلهم لهم أنهم على الحق والهدى، كما يقولون لهم يوم القيامة: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا﴾، ولهذا قال هاهنا: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾، وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.
قال البخاري (٣): حدثنا إبراهيم، حدثنا هشام، عن ابن جريج، و [١] قال عطاء، عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد: أما وَدّ فكانت لكلب بدَومة الجندل؛ وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غُطَف بالجُرُف [٢] عند سبأ، وأما يَعوقُ فكانت لهَمْدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي كَلاع، وهي [٣] أسماء رجال صالحين من قوم نوح ﵇ فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا
(٣) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿ودًّا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا﴾، حديث (٤٩٢٠) (٨/ ٦٦٧).