للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صادقًا أنك نبي فالحق بالشام؛ فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء، فصدق ما قالوا، فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا﴾ إلى قوله: ﴿تَحْويلًا﴾ فأمره الله بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها محياك ومماتك، ومنها تبعث.

وفي هذا الإِسناد نظر، والأظهر أن هذا ليس بصحيح؛ فإن النبي لم يغز تبوك عن قول اليهود، إنما غزاها امتثالًا لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾، وقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾، وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه، والله أعلم.

ولو صح هذا لحمل عليه الحديث الذي رواه الوليد بن مسلم، عن عُفَير بن مَعْدان، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله : "أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة: مكة، والمدينة، والشام". قال الوليد: يعني بيت المقدس، وتفسير الشام بتبوك أحسن مما قال الوليد: إنه بيت المقدس. والله أعلم.

وقيل: نزلت في كفار قريش، هموا بإخراج رسول الله من بين أظهرهم، فتوعدهم الله بهذه الآية، وأنهم لو أخرجره لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيرًا، وكذلك وقع، فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهوهم - بعد ما اشتد أذاهم له - إلا سنة ونصف، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد، فأمكنه منهم، وسلطه عليهم، وأظفره بهم، فقتل أشرافهم، وسبى سراتهم، ولهذا قال تعالى: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾، أي: هكذا عادتنا في الذين كفروا [١] برسلنا وآذوهم: يخرج [٢] الرسول من بين أظهوهم، ويأتيهم العذاب. ولولا أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.

﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (٧٨) وَمِنَ اللَّيلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (٧٩)


[١]- في خ: "كذبوا".
[٢]- في خ: "بخروج".