للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإنه أُصيب بمِحَنٍ عظيمةٍ، بسبب ما أظهره من إرشاد الناس إلى الدليل والصَّدعِ بالحق، وتضعيفِ علم الرأي؛ حتى أفضى ذلك إلى امتحانِ الملوك له، وإيقاعِهم به، وتشريدِه من مواطنه، وتحريقِ مصنَّفاته، ومع ذلك نَشر اللَّهُ من علومه ما صار عند كل فرقةٍ، وفي كل بلاد المسلمين، وبين ظَهرانَيْ كل طائفة.

ثم كذلك شيخ الإسلام «تقي الدين ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم»؛ فإنه لما أبان للناس فسادَ الرأي، وأرشدَهم إلى التمسُّك بالدليل، وصَدَع بما أمره اللَّهُ به، ولم يَخَفْ في اللَّه لومةَ لائم، قام عليه طوائفُ من المُنتمِين إلى العلم، المنتحِلين له من أهلِ المناصب وغيرهم، فما زالوا يحاولون ويُصاولون، ويَسعَون به إلى الملوك، ويَعقِدون له مجالسَ المناظرة، ويُفتون تارةً بسَفك دمه، وتارةً بتشريده، وتارةً باعتقاله، فنشر اللَّهُ من فوائده ما لم يُنشر بعضُه لأحدٍ من معاصريه، وترجَمه أعداؤه فضلًا عن أصدقائِه بتراجمَ لم يتيسَّر لهم مثلُها، ولا ما يقارنُها لأحدٍ من الذين يتعصَّبون لهم ويَدأبُون في نشر فضائلهم، ويُطرِئون (١) في إطرائهم، وجَعَل اللَّهُ له من ارتفاع الصِّيت وبُعدِ الشهرة ما لم يكن لأحدٍ من أهل عصره، حتى اختَلف مَنْ جاء بعدَ عصره في شأنه، واشتغلوا بأمره، فعاداه قومٌ، وخالَفهم آخرون، والكلُّ معترفون بقَدْره، معظِّمُون له، خاضعون لعلومه، واشتُهر هذا بينهم غايةَ الاشتهار، حتى ذكره المترجِمُون لهم في تراجِمِهم، فيقولون: «وكان منَ المائلين إلى ابن تيمية أو المائلين عنه»!.

وهذه الإشارةُ إنما هي لقَصدِ الإيضاح لك، لتعلمَ بما يصنعُه اللَّهُ لعباده


(١) الإطراء: المبالغة في المدح، وتأتي بمعنى المدح ذاته؛ كما في التي بعدها.

<<  <   >  >>