للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اشتُهرت مذاهبُهم، وانتشرت أقوالُهم، وطارت مصنَّفاتُهم بعدَما نالَهم من المحنة ما نالهم:

كإمام دارِ الهجرة «مالك بن أنس»، فإنه بُلِيَ بخصوم، وعاداه مُلوك، فنشر اللَّهُ مذهبَه في الأقطار، واشتُهر من أقواله ما ملأ الأنجادَ والأغوار (١).

كذلك الإمامُ «أحمد بن حنبل»؛ فإنه وقع له منَ المحن التي هي مِنحٌ ما لا يخفى على مَنْ له اطلاع، وضُرب بين يَدَيِ «المعتصم» العباسي ضربًا مبرِّحًا، وهَمُّوا بقتله مرةً بعد مرَّة، وسجَنوه في الأمكنةِ المظلمة، وكبَّلوه بالحديد، ونوَّعوا له أنواعَ العذاب، فنَشر اللَّهُ مِنْ علومه ما لا يَحتاج إلى بيان، ولا يفتقرُ إلى إيضاح، وكانت العاقبةُ له، فصار بعد ذلك إمامَ الدنيا غيرَ مدافَع، ومَرْجِعَ أهلِ العلم غيرَ منازَع، ودَوَّن الناسُ كلماتِه، وانتفعوا بها، وكان يتكلمُ بالكلمةِ فتطيرُ في الآفاق، فإذا تكلم بالكلمةِ في رجلٍ بجَرح، تَبِعَه الناس، وبَطَل علمُ المجروح! وإن تكلم في رجلٍ بتعديل، كان هو العدلَ الذي لا يَحتاج بعدَ تعديله إلى غيره.

ثم الإمام «محمد بن إسماعيل البخاري»، أصابه من محمد بن يحيى الذُّهْلِيِّ وأتباعِه من المحنةِ ما مات به كَمَدًا (٢)، ثم جعل اللَّهُ تعالى كتابه «الجامع الصحيح» كما ترى أصحَّ كتابٍ في الدنيا، وأشهرَ مؤلَّفٍ في الحديث، وأجلَّ دفترٍ من دفاتر الإسلام.

ثم انظر أحوالَ مَنْ جاء بعد هؤلاء بدهرٍ طويل، ك «ابنِ حزمٍ المَغرِبي»،


(١) الأنجاد: المرتفعات. الإغوار: السفليات.
(٢) أنصح بالاستماع إلى محاضرات «أولئك آبائي»، لشيخنا الحبيب أبي إسحاق الحويني؛ حيث فصَّل الكلام على حياة الإمام البخاري .

<<  <   >  >>