هؤلاء في أوائل أمره، وأما بعد طولِ العكوف على ذلك والشغَفِ به والتحفُّظ له؛ فما أبعدَ التأثير وما أصعبَ القبول! لأن طبائعهم ما زالت تزدادُ كثافةً بازدياد تحصيل ذلك، وتستفيدُ غِلظةً وفظاظةً باستفادة ذلك، وبمقدار وُلُوعِهم بما هم فيه وشغَفِهم به تكون عدواتُهم للحق ولعلمِ الأدلة وللقائمين بالحُجة.
ولقد شاهدْنا من هذه الطبقة ما لو سرَدْنا بعضَه لاستعظمه سامعه واستفظعه؛ فإن غالبهم لا يَتصورُ بعد تمرُّنه فيما هو فيه إلَّا منصبًا يثبُتُ عليه، أو يتيمًا يشاركُه في ماله، أو أرملةً يُخادعُها عن مِلْكها، أو فرصةً ينتهزُها عند مَلِكٍ أو قاضٍ، فيبلُغَ بها إلى شيءٍ من حُطام الدنيا! ولا يبقى في طبائع هؤلاءِ شيءٌ من نور العلم وهَديِ أهله وأخلاقِهم؛ بل هم أشبهُ شيءٍ بالجبابرةِ وأهلِ المباشرة للمظالم، ومع هذا فهم أشدُّ خَلق اللَّهِ تعصُّبًا وتعنُّتًا وبُعدًا عن الحق، ورجوعُهم إلى الحقِّ من أبعدِ الأمور وأصعبِها؛ لأنه لم يَبْقَ في أفهامهم فضلةٌ لتعقُّلِ ذلك وتدبُّرِه؛ بل قد صار بعضُها مستغرِقًا بالرأي، وبعضها مستغرَقًا بالدنيا.
* [كيف يُعالَجُ التعصُّبُ عند أنصافِ المُتعلِّمين؟]:
فإن قلت: فهل بقي مَطمعٌ في أهل هذه الطبقة؟ وكيف الوصولُ إلى إرشادهم إلى الإنصاف، وإخراجهم عن التعصُّب؟.
قلت: لا مطمعَ إلا بتوفيق اللَّهِ وهدايته؛ فإنه إذا أراد أمرًا يسَّر أسبابه، وسهَّل طرائقه، وأحسنُ ما يستعمله العالِمُ مع هؤلاء: ترغيبُهم في العلم، وتعظيمُ أمره، والإكثارُ من مدح علوم الاجتهاد، وأن بها يُعرفُ أهلُ العلم الحقِّ من الباطل، ويميِّزون الصوابَ من الخطأ، وأن مجرد التقليد ليس مِنْ