للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ فِي الذَّارِيَاتِ جَعَلَاهُ مِنَ السِّلْمِ وَهُوَ الصُّلْحُ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسِّلْمِ} مِثْلَهُ.

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: «قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ» بِالْأَلِفِ جَمِيعًا جَعَلُوهُ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، وَمَعْنَاهُ: قَالُوا: تَسَلَّمْنَا مِنْكُمْ تَسَلُّمًا كَمَا تَقُولُ: لَا يَكُنْ مِنْ فُلَانٍ إِلَّا سَلَامًا بِسَلَامٍ أَيْ:

مُبَايِنًا لَهُ مُتَارِكًا، فَالْأَوَّلُ: نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالثَّانِي: رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا إِنَّا سَلَامٌ.

- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}.

قَرَأَ حَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «يَعْقُوبَ» بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، فَمَنْ نَصَبَ جَعَلَهُ عَطْفًا عَلَى {وَبَشَّرْنَاهُ} كَأَنَّهُ جَعَلَ الْكَلَامَ بِمَعْنَى الْهِبَةِ، أَيْ: وَهَبْنَا لَهُ يَعْقُوبَ.

وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيُّونَ: مَنْ قَرَأَ: {مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}.

فَمَوْضِعُهُ خَفْضٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ، وَهَذَا غَلَطٌ‍ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّكَ لَا تَعْطِفُ عَلَى عَامِلَيْنِ، مُحَالٌ أَنْ تَقُولَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ فِي الدَّارِ وَالْحُجْرَةِ عَمْرٍو، وَمَنْ رَفَعَ جَعَلَهُ ابْتِدَاءً.

وَالْوَرَاءُ هَاهُنَا، وَلَدُ الْوَلَدِ، قَالَ: أَقْبَلَ الشَّعْبِيُّ وَمَعَهُ ابْنُ ابْنٍ لَهُ فَقِيلَ: أَهَذَا ابْنُكَ؟ فَقَالَ: هُوَ ابْنِي مِنَ الْوَرَاءِ، أَيْ: مِنْ وَلَدِ وَلَدِي، فَالْوَرَاءُ يَكُونُ قُدَّامًا وَخَلْفًا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} أَيْ: أَمَامَهُمْ، أَمَّا الْوَرَى، مَقْصُورٌ فَالْخَلْقُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: لَا أَدْرِي أَيَّ الْوَرَى هُوَ؟ وَأَيَّ الطَّمْشِ هُوَ؟ وَأَيَّ الطَّبْلِ؟ وَأَيَّ تُرْحُمٍ هُوَ؟ أَيْ:

أَيُّ الْخَلْقِ؟ وَالْوَرَى مَقْصُورٌ أَيْضًا دَاءٌ فِي الْجَوْفِ عِنْدَ الْفَرَّاءِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الْوَرَى، سَاكِنٌ مِثْلَ الدَّمْيِ، وَيُنْشِدُ:

قَالَتْ لَهُ وَرْيًا إِذَا تَنَحْنَحْ ... يَا لَيْتَهُ يُسْقَى عَلَى الذُّرَحْرَحْ

فَخَطَّأَهُ سَائِرُ النَّحْوِيِّينَ، وَقَدْ وَجَدْتُ لِلفْرَّاءِ حُجَّةً، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِي مَثَلٍ لَهَا: «بِفِيهِ الْبَرَى وَرَمَاهُ اللَّهُ بِالْوَرَى» بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» وَقَالَ عَبْدُ بَنِي الْحَسْحَاسِ:

وَرَاهُنَّ رَبِّي مِثْلَ مَا قَدْ وَرَيْنَنِي ... وَأَحْمَى عَلَى أَكْبَادِهِنَّ الْمَكَاوِيَا

فَلَوْ كُنْتُ وَرْدًا لَوْنُهُ لَعَشِقْنَنِي ... وَلَكِنَّ رَبِّي شَانَنِي بِسَوَادِيَا

<<  <   >  >>