يخبر تعالى عمن خرج مهاجرًا في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلبًا لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخلّان، وفارق بلاده في الله ورسوله، ونصرة لدين الله ﴿ثُمَّ قُتِلُوا﴾؛ أي في الجهاد، ﴿أَوْ مَاتُوا﴾؛ أي حتف أنفهم؛ أي من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل والثناء الجميل، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء: ١٠٠].
وقوله: ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾ أي: ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ﴾ أي: الجنة كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩)﴾ [الواقعة] فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم، كما قال ههنا: ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾
ثم قال: ﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ﴾ أي: بمن يهاجر ويجاهد في سبيله وبمن يستحق ذلك ﴿حَلِيمٌ﴾ أي: يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب، ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه.
فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فإنه حي عند ربه يرزق كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)﴾ [آل عمران]، والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم، وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه وعظيم إحسان الله إليه.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا المسيب بن واضح، حدثنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن شريح، عن ابن الحارث -يعني: عبد الكريم-، عن ابن عقبة -يعني: أبا عبيدة بن عقبة- قال: قال حدثنا شرحبيل بن السمط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمرَّ بي سلمان -يعني: الفارسي ﵁-، فقال: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من مات مرابطًا أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق، وأَمِن من الفتّانين، واقرأوا إن شئتم ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)﴾ "(١).
(١) أخرجه مسلم من طريق عبد الرحمن بن شريح به بدون ذكر الآية، ومن طريق مكحول عن شرحبيل بن السمط به، بلفظ: وأَمنَ الفتَّان، وبدون ذكر الآية (الصحيح، الإمارة، باب فضل الرباط) (ح ١٩١٣).