واختلفوا: هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل، وإن كان قد حكم في مثله الصحابة أو يكتفى بأحكام الصحابة المتقدمة؟ على قولين:
فقال الشافعي وأحمد: يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة، وجعلاه شرعًا مقررًا لا يعدل عنه، وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين.
وقال مالك وأبو حنيفة: بل يجب الحكم في كل فرد فرد سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا، لقوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾.
وقوله تعالى: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ أي: واصلًا إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرق لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة.
وقوله: ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾ أي: إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم، أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام بين الجزاء والإطعام والصيام، كما هو قول مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وأحد قولي الشافعي، والمشهور عن أحمد، ﵏، لظاهر "أو" بأنها للتخيير.
والقول الآخر: أنها على الترتيب، فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة، فيقوم الصيد المقتول عند مالك وأبي حنيفة وأصحابه وحماد وإبراهيم.
وقال الشافعي: يقوم مثله من النعم لو كان موجودًا، ثم يُشترى به طعام فيتصدق به فيصرف لكل مسكين مد منه، عند الشافعي ومالك وفقهاء الحجاز، واختاره ابن جرير.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يطعم كل مسكين مدين، وهو قول مجاهد. وقال أحمد: مد من حنطة أو مدان من غيره، فإن لم يجد أو قلنا بالتخيير، صام عن إطعام كل مسكين يومًا.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يومًا كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه، فإن الشارع أمر كعب بن عجرة أن يقسم فرقًا بين ستة، أو يصوم ثلاثة أيام، والفرق ثلاثة آصع، واختلفوا في مكان هذا الإطعام، فقال الشافعي: مكانه الحرم، وهو قول عطاء. وقال مالك يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد أو أقرب الأماكن إليه. وقال أبو حنيفة: إن شاء أطعم في الحرم، وإن شاء أطعم في غيره.
[ذكر قوال السلف في هذا المقام]
قال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا أبي، حَدَّثَنَا يحيى بن المغيرة، حَدَّثَنَا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله الله تعالى: ﴿فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾ قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم، فإن لم يجد، نظر كم ثمنه، ثم قوم ثمنه طعامًا، قال الله تعالى: ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾ قال: إنما أريد بالطعام والصيام، أنه إذا وجد الطعام وجد جزاؤه (١). ورواه ابن جرير من طريق جرير.
(١) أخرجه ابن أبي حاتم بسنده بنحوه، وسنده حسن. وأخرجه الطبري من طريق جرير به.