للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجًا منها، أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مرارًا ويقول الله تعالى: يا ابن آدم ما أغدرك، ثم يأذن له في دخول الجنة (١).

وأما قوله: فكيف يكلفهم الله دخول النار وليس ذلك في وسعهم؟ فليس هذا بمانع من صحة الحديث، فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحدّ من السيف وأدق من الشعرة، ويمرُّ المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي ومنهم من يحبو حبوًا ومنهم المكدوش (٢) على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.

وأيضًا فقد أثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار، فإنه يكون عليه بردًا وسلامًا (٣)، فهذا نظير ذاك، وأيضًا فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم فقتل بعضهم بعضًا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفًا، يقتل الرجل أباه وأخاه، وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل، وهذا أيضًا شاق على النفوس جدًا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور، والله أعلم.

[فصل]

إذا تقرر هذا فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال:

أحدها: أنهم في الجنة. واحتجوا بحديث سمرة أنه رأى مع إبراهيم أولاد المسلمين وأولاد المشركين، وبما تقدم في رواية أحمد عن حسناء عن عمها أن رسول الله قال: "والمولود في الجنة" وهذا استدلال صحيح، ولكن أحاديث الامتحان أخصّ منه.

فمن علم الله منه أنه يطيع جعل روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة، ومن علم منه أنه لا يجيب، فأمره إلى الله تعالى يوم القيامة يكون في النار، كما دلت عليه أحاديث الامتحان، ونقله الأشعري عن أهل السنة، ثم إن هؤلاء القائلين بأنهم في الجنة منهم من جعلهم مستقلين فيها، ومنهم من جعلهم خدمًا لهم، كما جاء في حديث علي بن زيد عن أنس عند أبي داود الطيالسي وهو ضعيف، والله أعلم (٤).

والقول الثاني: أنهم مع آبائهم في النار. واستدل عليه بما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي المغيرة، حدثنا عتبة بن ضمرة بن حبيب، حدثني عبد الله بن أبي قيس مولى غطيف أنه أتى


(١) أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة (صحيح البخاري، الأذان، باب فضل السجود ح ٨٠٦، وصحيح مسلم، الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية ح ١٨٢).
(٢) المكدوش: المطرود.
(٣) أخرجه الشيخان من حديث حذيفة (صحيح البخاري، أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل ح ٣٤٥٠، وصحيح مسلم، الفتن، باب "ذكر الدجال" ح ٢٩٣٤).
(٤) هذه الأحاديث كلها تقدم تخريجها في تفسير الآية نفسها.