للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت، فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجي، وكان ذلك من [سجع] الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم، وتباشروا بها، وقالوا: إن محمدًا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه، فلما بلغ رسول الله آخر النجم سجد، وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلًا كبيرًا فرفع على كفه ترابًا فسجد عليه، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله ، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الآية الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين، فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطان في أُمنية رسول الله ، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيم آلهتهم، ففشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلَّوا مع رسول الله ، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة، فأقبلوا سراعًا، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وحفظه من الفرية، وقال الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٣)﴾ فلما بيّن الله قضاءه، وبرأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم المسلمين، واشتدوا عليهم (١)، وهذا أيضًا مرسل.

وفي تفسير ابن جرير، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه (٢)، وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه "دلائل النبوة"، فلم يجز به موسى بن عقبة ساقه من مغازيه بنحوه، قال: وقد روينا عن أبي إسحاق هذه القصة.

(قلت): وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات (٣)، والله أعلم.

وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك، ثم سأل ههنا سؤالًا: كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه؟ ثم حكى أجوبة عن الناس من ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله ، وليس كذلك في نفس الأمر؛ بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن (٤)، والله أعلم.

وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته.


(١) عزاه السيوطي إلى ابن أبي حاتم، وسنده مرسل يتقوى بما سبق.
(٢) أخرجه الطبري من طريق الزهري به مختصرًا.
(٣) لكنها تتقوى بما سبق.
(٤) معالم التنزيل ٣/ ٢٩٣، ٢٩٤.