للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن داود الواسطي، حدثنا إسحاق بن يوسف، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم -هو: البطين-، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن. قال ابن عباس: فانزل الله ﷿: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩)﴾ قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فعرفت أنه سيكون قتال (١).

ورواه الإمام أحمد، عن إسحاق بن يوسف الأزرق به، وزاد: قال ابن عباس: وهي أول آية نزلت في القتال. ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف، زاد الترمذي ووكيع كلاهما عن سفيان الثوري به. وقال الترمذي: حديث حسن، وقد رواه غير واحد عن الثوري، وليس فيه ابن عباس (٢).

وقوله: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ أي: هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكن هو يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته، كما قال: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (٦)[محمد]، وقال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)[التوبة] وقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٦)[التوبة] وقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)[آل عمران]، وقال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (٣١)[محمد]، والآيات في هذا كثيرة.

ولهذا قال ابن عباس في قوله: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾: وقد فعل (٣)، وإنما شرع تعالى الجهاد في الوقت الأليق به؛ لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا فلو أمر المسلمين وهم أقل من العشر بقتال الباقين لشق عليهم، ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله ، وكانوا نيفًا وثمانين، قالوا: يا رسول الله ألا نميل على أهل الوادي؛ يعنون أهل منى، ليالي منى فنقتلهم؟ فقال رسول الله : "إني لم أومر بهذا" (٤)، فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي من بين أظهرهم وهمُّوا بقتله، وشرَّدوا أصحابه شذر مذر، فذهب منهم طائفة إلى الحبشة وآخرون


(١) أخرجه الطبري بسنده ومتنه، وسنده حسن كما يلي.
(٢) المسند ١/ ٢١٦، وسنن الترمذي، التفسير، باب سورة الحج (ح ٣١٧١)، وسنن النسائي، الجهاد، باب وجوب الجهاد ٦/ ٢، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، وأحمد شاكر في تعليقه على المسند (ح ١٨٦٥)، وأخرجه ابن حبان (الإحسان ١١/ ٨ ح ٤٧١٠)، والحاكم كلاهما من طريق إسحاق بن يوسف الأزرق به، وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك ٢/ ٦٦).
(٣) هذا الأثر تتمة لرواية العوفي عن ابن عباس المتقدمة في بداية تفسير هذه الآية.
(٤) أخرجه الإمام أحمد مطولًا من حديث كعب بن مالك ، وقال محققوه: حديث قوي، وهذا إسناد حسن (المسند ٢٥/ ٨٩ - ٩٥ ح ١٥٧٩٨).