للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

له وأذن له في بنائه، واستدل به كثير ممن قال: إن إبراهيم هو أول من بنى البيت العتيق، وأنه لم يُبنَ قبله، كما ثبت في الصحيحين عن أبي ذرّ، قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول؟ قال: "المسجد الحرام". قلت: ثم أي؟ قال: "بيت المقدس". قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة" (١).

وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٦، ٩٧].

وقال تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: ١٢٥]، وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار بما أغنى عن إعادته ههنا (٢)، وقال تعالى ههنا: ﴿أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ أي: ابنه على اسمي وحدي.

﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ قال قتادة ومجاهد: من الشرك (٣).

﴿لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ أي: اجعله خالصًا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له، فالطائف به معروف، وهو أخصُّ العبادات عند البيت، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها ﴿وَالْقَائِمِينَ﴾ أي: في الصلاة، ولهذا قال: ﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ فقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده والصلاة إليه في غالب الأحوال، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب وفي النافلة في السفر، والله أعلم.

وقوله: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ أي: ناد في الناس بالحج، داعيًا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب وكيف أُبلِّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس (٤)، وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع مَن في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة، لبيك اللهم لبيك، وهذا مضمون ما روي عن ابن عباس (٥) ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير (٦) وغير واحد من السلف، والله أعلم، أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.

وقوله: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ … ﴾ الآية، قد يستدل بهذه الآية من ذهب من


(١) صحيح البخاري، أحاديث الأنبياء، الباب العاشر (ح ٣٣٦٦).
(٢) ينظر: سورة البقرة آية ١٢٥.
(٣) قول مجاهد أخرجه الطبري بسندين يقوي أحدهما الآخر في سورة البقرة آية ١٢٥ (التفسير ٢/ ٥٣٣)، وقول قتادة أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن معمر عنه.
(٤) وهو الجبل المجاور للكعبة المشرفة.
(٥) أخرجه ابن أبي شيبة (المصنف ١١/ ٥١٨)، والحاكم (المستدرك ٢/ ٣٨٨) كلاهما من طريق جرير عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس مختصرًا، وصححه ووافقه الذهبي، ولكن قابوس لين الحديث كما في التقريب (ص ٤٤٩)، ويتقوى بالآثار التالية.
(٦) قول مجاهد أخرجه عبد الرزاق (المصنف رقم ٩١٠٠)، والطبري والبيهقي (الجامع لشعب الإيمان رقم ٣٩٩٩، ٤٠٠٠) من ثلاثة طرق يقوي بعضها بعضًا، وقول عكرمة هو ابن خالد المخزومي أخرجه الطبري بسند حسن من طريق داود عنه، وقول سعيد بن جبير أخرجه الطبري بسند حسن من طريق عطاء بن السائب عنه.