للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقوله: ﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ﴾ أي: من ساعاته فتهجد به، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء ﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ في مقابلة آناء الليل ﴿لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾، كما قال تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (٥)[الضحى].

وفي الصحيح: "يقول الله تعالى: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا" (١).

وفي الحديث: "يقال: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة، فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم خيرًا من النظر إليه، وهي الزيادة" (٢).

﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (١٣٢)﴾.

يقول تعالى لنبيه محمد : لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم وما هم فيه من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة، لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور.

وقال مجاهد: ﴿أَزْوَاجًا مِنْهُمْ﴾ يعني: الأغنياء، فقد آتاك خيرًا مما آتاهم، كما قال في الآية الأخرى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ﴾ [الحجر: ٨٧، ٨٨]، وكذلك ما ادخره الله تعالى لرسوله في الآخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف، كما قال تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (٥)[الضحى]، ولهذا قال: ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾.

وفي الصحيح: أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن، فرآه متوسدًا مضطجعًا على رمال حصير، وليس في البيت إلا صبرة من قرظ (٣) وأهب (٤) معلقة، فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فقال له رسول الله : "ما يبكيك يا عمر؟ " فقال: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه؟ فقال: "أَوَ في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" (٥).

فكان أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها، إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله، ولم يدخر لنفسه شيئًا لغد.


(١) أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري ، صحيح البخاري، الرقاق، باب صفة الجنة والنار (ح ٦٥٤٩)، وصحيح مسلم، الجنة، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة (ح ٢٨٢٩).
(٢) تقدم تخريجه في تفسير سورة يونس آية ٢٦.
(٣) أي: كومة مما يُدبغ به الجلود.
(٤) أي: جلد من البقر والغنم والوحش.
(٥) أخرجه البخاري مطولًا (الصحيح، المظالم، باب الغرفة والعليَّة المشرفة .. ح ٢٤٦٨)، وأخرجه مسلم (الصحيح، الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء .. ح ١٤٧٩).