للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (١٤)[الإنسان]، وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (٥٧)[النساء].

وقد تقدم في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها" ثم قرأ ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠)(١). وكثيرًا ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار ليرغب في الجنة ويحذر من النار، ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر قال بعده: ﴿تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾. كما قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠)[الحشر].

وقال بلال بن سعد خطيب دمشق في بعض خطبه: عباد الله، هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئًا من عبادتكم تقبلت منكم، أو أن شيئًا من خطاياكم غفرت لكم؟ ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥)[المؤمنون]، والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم، أو ترغبون في طاعة الله لتعجيل دنياكم ولا تنافسون في جنة ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾. رواه ابن أبي حاتم (٢).

﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (٣٧)﴾.

يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ وهم قائمون بمقتضاه ﴿يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي: من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٢١)[البقرة] وقال تعالى: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (١٠٨)[الإسراء] أي: إن كان ما وعدنا الله به في كتبنا من إرسال محمد لحقًا وصدقًا مفعولًا لا محالة وكائنًا، فسبحانه ما أصدق وعده، فله الحمد وحده ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (١٠٩)[الإسراء]. وقوله: ﴿وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾ أي: ومن الطوائف من يكذب ببعض ما أنزل إليك. وقال مجاهد: ﴿وَمِنَ الْأَحْزَابِ﴾ أي: اليهود والنصارى ﴿مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾ أي: بعض ما جاءك من الحق (٣). وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (٤)، وهذا كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩٩)[آل عمران]، ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ﴾ أي: إنما بعثت


(١) تقدم تخريجه في الآية ٢٩ من هذه السورة الكريمة.
(٢) أخرجه أبو نعيم (حلية الأولياء ٥/ ٢٣١).
(٣) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.
(٤) قول قتادة أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي عروبة عنه، وقول عبد الرحمن أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن وهب عنه.