وقولُه تَعَالى {وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ}.
قرأ ابنُ كثيرٍ: «الجوابي» بالياء، وصل أو قف على الأصل، لأن الأصل جبية والجمعُ جوابٍ، قَالَ الشَّاعِر - هُوَ الأعشى -:
كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ العِرَاقِيِّ تَفْهَقُ
والجوابي: الحياض، والجفان: القِصاع الكِبار، والقدور الراسيات الثابتة التي لا تَزِلُّ لعظمها، واستعمالهم إياها دائمة.
والباقون يحذفونها وصلًا، ووقفًا اجتزاء بالكسرةِ واتباعًا للكتاب.
وكذلك قرأ نافعٌ بروايةِ ورشٍ «الجوابي» بالصلة فِي الوصل.
وكان بعضُ الزَّنادقة، يَقُولُ: إن فِي القرآن ما يُوافق الشِّعر كقوله: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ}، {ودانية عليهم ظلالها}، {وجفان كالجواب وَقُدُوْرٍ رَاسِيَاتٍ} وهذا الزِّنديق مَعَ كُفره جاهلٌ بمذهبِ العربِ وافتنانها بالمَنظوم والمَنثور.
وذلك أنَّ الشَّاعر لا يَقُولُ بيتًا وفي آخره حرف نَسَقٍ لم يَتَقَدَّمْهُ بَيْتٌ قبله، ولا يكونُ الكلامُ شعرًا حتَّى يَقُولُ صاحِبُهُ إني نظمت هَذَا الكلام وجعلتُهُ شعرًا، فأمَّا إذا تكلَّم بكلامٍ موزونٍ لم يُسَمَّ شعرًا، وأنت تجد ذَلِكَ فِي كلام العجم، والعامِيُّ لا يعرف الشعر ربما يتكلم بكلامٍ لو حُمل عَلَى بحور الشعر وعروضه لاتزن، وهذا بيِّنٌ والحمد لله.
وقولُه تَعَالى: {إلَّا دابَّةُ الَأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ}.
قرأ أَبُو عَمْرٍو ونافع الهمزِ تخفيفًا. والأصل الهمز من «مِنْسَأَتَهُ» كما قرأ الباقون.
وقرأ ابنُ ذكوان عن ابْنُ عامرٍ «مِنْسَأْتَهُ» بسكون الهمزة.
والمِنْسَأَةُ: العَصَا.
وحدَّثني ابن مجاهد عن السمري، عن الفراء، قال: حَدَّثَنِي حِبَّان، عن الكَلْبِيّ، عن أَبِي صالحٍ، عن ابْنُ عَبَّاس فِي قولُه: «تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ» قَالَ: عَصَاهُ. قَالَ الشَّاعِرُ - فِي تركِ الهَمْزِ -:
إذَا دَبَبْتَ عَلَى المَنْسَاةِ من كِبَرٍ ... فَقَدْ تَبَاْعَدَ عَنْك اللَّهْوُ وَالغَزَلُ
وقال بعضهم: لا تُسمي العصا المَنْسَأَةَ إلا عصا الرَّاعي الكبيرة، وإنما قيل لها المَنْسَأَة، لأنَّه يُنسى بها أي: يُؤخر بها الدَّواب يقال: أَنسأ اللَّه أجلك، ونَسَأَ اللَّه فِي أَجَلِكَ أي: أخَّر فِي عمرك وزاد فِيهِ، ويقالُ للَّبَنِ إذا مُزِجَ بالماء ومذقته: النسء