للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صَارَتْ أَلِفًا لِانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَالْأَصْلُ: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى، مَنْ كَانَ فِيمَا وَصَفْنَا مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا أَعْمَى فَهُوَ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ أَعْمَى.

وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو أَحْذَقَهُمْ فَفَرَّقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ فَقَرَأَ: «وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى» بِالْإِمَالَةِ: «فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى»، بِالْفَتْحِ أَيْ: أَشَدُّ عَمًى، فَجَعَلَ الْأَوَّلَ صِفَةً بِمَنْزِلَةِ أَحْمَرَ وَأَصْفَرَ، وَالثَّانِي بِمَنْزِلَةِ أَفْعَلَ مِنْكَ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُقَالُ: هُوَ أَشَدُّ عَمًى فَلِمَ قَالَ تَعَالَى: {فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} وَلَمْ يَقُلْ: أَشَدُّ عَمًى؟

فَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْعَمَى عَلَى ضَرْبَيْنِ: عَمَى الْعَيْنِ وَعَمَى الْقَلْبِ فَيُقَالُ: مَا أَشَدَّ عَمَاهُ فِي الْعَيْنِ، وَفِي الْقَلْبِ، مَا أَعْمَاهُ، بِغَيْرِ أَشَدَّ، لِأَنَّ عَمَى الْقَلْبِ حُمْقٌ، وَرُبَّمَا قَالَ الشَّاعِرُ ضَرُورَةً، مَا أَبْيَضَهُ وَمَا أَحْمَرَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

أَمَّا الْمُلُوكُ فَأَنْتَ الْيَوْمَ أَلْأَمُهُمْ ... لُؤْمًا وَأَبَيْضُهُمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ

وَيُقَالُ: مَا أَسْوَدَهُ مِنَ السُّؤْدَدِ لَا مِنْ سَوَادِ اللَّوْنِ، وَمَا أَحْمَرَهُ مِنَ الْبِلَادَةِ كَأَنَّهُ حِمَارٌ لَا مِنَ الْحُمْرَةِ.

وَحَدَّثَنِي ابْنُ مُجَاهِدٍ، عَنِ السِّمَّرِيِّ، عَنِ الْفَرَّاءِ: أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: امْرَأَةٌ مُسْوَدَّةٌ مُبْيَضَّةٌ أَيْ: تَلِدُ السُّودَانَ وَالْبِيضَانَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالِاخْتِيَارُ امْرَأَةٌ مُوضِحَةٌ إِذَا وَلَدَتِ الْبِيضَانَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا وَجْهَ لِمَا فَرَّقَ أَبُو عَمْرٍو بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الثَّانِيَ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ مِنْكَ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْإِمَالَةِ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ «بِالَّذِي هُوَ أَدْنَى».

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّمَا أَرَادَ أَبُو عَمْرٍو أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا لَمَّا اخْتَلَفَ مَعْنَيَاهُمَا وَاجْتَمَعَا فِي آيَةٍ كَمَا قَرَأَ «وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ» بَالْيَاءِ يَعْنِي الْكُفَّارَ «عَمَّا تَعْمَلُونَ» بِالتَّاءِ، أَيْ:

أَنْتُمْ وَهُمْ، وَلَوْ وَقَعَ مُفْرَدًا لَأَجَازَ الْإِمَالَةَ وَالتَّفْخِيمَ فِي كِلَيْهِمَا، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ فِيهِ قَوْلًا رَابِعًا: قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: «فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى» لَمْ يُرِدْ أَعْمَى مِنْ كَذَا إِنَّمَا يُخْبِرُ أَنَّهُ كَذَلِكَ.

- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ}.

قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عن عاصم {خلافك}.

والباقون «خلفك» قال: إنما اخْتَرْنَا ذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: بَعْدَكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} أَيْ: لِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَلَيْسَ هذا

<<  <   >  >>