للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(تعالى) (١) بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا، وقوله: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ أي: (وصى) (٢) بهذه (الملة) (٣)، وهي الإسلام لله (٤) [أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾] (٥). لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم؛ كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ [الزخرف: ٢٨] وقد قرأ بعض السلف "ويعقوب" بالنصب عطفًا، على بنيه، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرًا ذلك، وقد ادعى القشيري فيما حكاه القرطبي (٦) عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم، ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح؛ والظاهر، والله أعلم، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة؛ لأن البشارة وقعت بهما في قوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: ٧١] وقد قرئ بنصب "يعقوب" ههنا على نزع الخافض، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة، وأيضًا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)﴾ الآية [العنكبوت] وقال في الآية الأخرى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ [الأنبياء: ٧٢] وهذا يقتضى أنه وجد في حياته، وأيضًا فإنه باني بيت المقدس، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في "الصحيحين" (٧) من حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله؛ أي: مسجد وضع أول؟ قال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي؟ قال: "بيت المقدس"، قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنةً" الحديث. فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس - وإنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه - وبين إبراهيم أربعين سنةً، وهذا مما أنكر على ابن حبان، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين (٨)، والله أعلم، وأيضًا فإن ذكر وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا، وهذا يدل على أنه ههنا من جملة الموصين.

وقوله: ﴿يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي: أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا (ليرزقكم) (٩) الله الوفاة عليه. فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويبعث على ما (مات) (١٠) عليه. وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وفق له ويُسر


(١) لم ترد في (ز).
(٢) في (ك): "رضى"!
(٣) في (ك): "المسألة"!
(٤) ساقط من (ز) و (ض) و (ى).
(٥) ساقط من (ز) و (ض) و (ى).
(٦) في "تفسيره" (٢/ ١٣٦) وقال: "وهو بعيد، لأن يعقوب لم يكن حينئذ بين أولاد إبراهيم لما وصاهم، ولم ينقل أن يعقوب أدرك جده إبراهيم، وإنما ولد بعد موت إبراهيم، وأن يعقوب أوصى بنيه أيضًا كما فعل إبراهيم". اهـ.
(٧) أخرجه البخاري في "كتاب الأنبياء" (٦/ ٤٠٧)؛ ومسلم في "كتاب المساجد" (٥٢٠/ ١).
(٨) قال ابن القيم في "زاد المعاد" (١/ ٤٩): "وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به، فقال: معلوم أن سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام، وهذا جهل من هذا القائل، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه، والذي أسسه يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وآلهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار". اهـ.
(٩) في (ل): "يرزقكم".
(١٠) في (ل): "كان".