للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وأفعالك وشرعك وقدرك

ثم قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ وهذا تأكيد لما تقدم ومستثنى منه ما تقدم أيضًا لأن هذه الأسوة المثبتة ههنا هي الأول بعينها.

وقوله تعالى: ﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ تهييج إلى ذلك لكل مُقر بالله والمعاد، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ﴾ أي: عما أمر الله به ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ كقوله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٨].

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الغني الذي قد كمل في غناه وهو الله، هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفء وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار الحميد المستحمد إلى خلقه؛ أي: هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله لا إله غيره ولا ربَّ سواه.

﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)﴾.

يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً﴾ أي: محبة بعد البغضة، ومودَّة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة ﴿وَاللَّهُ قَدِيرٌ﴾ أي: على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة فتصبح مجتمعة متفقة، كما قال تعالى ممتنًا على الأنصار: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ الآية [آل عمران: ١٠٣] وكذا قال لهم النبي : "ألم أجدكم ضُلّالًا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ " (١) وقال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)[الأنفال] وفي الحديث: "أَحبب حبيبك هونًا ما، فعسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما فعسى أن يكون حبيبك يومًا ما" (٢).

وقال الشاعر (٣):

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما … يظنان كلَّ الظنِّ أن لا تلاقيا

وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي: يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم


(١) تقدم تخريجه في سورة التوبة آية ٧٤.
(٢) أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة ثم قال: حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث عن أيوب بإسناد غير هذا، رواه الحسن بن أبي جعفر بإسناده عن علي عن النبي ، والصحيح عن علي موقوف قوله. (السنن، البر، باب ما جاء في الاقتصاد في الحب والبغض ح ١٩٩٨).
(٣) هو قيس بن الملّوح كما في ديوانه ص ٣١٥.