للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي: مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به فإنما هو متاع الحياة الدنيا وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ أي: وثواب الله تعالى خير من الدنيا وهو باقٍ سرمدي فلا تقدموا الفاني على الباقي ولهذا قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أي: ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات.

ثم قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾ وقد قدمنا الكلام على الإثم والفواحش في سورة الأعراف.

﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ أي: سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس ليس سجيتهم الانتقام من الناس. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله (١)، وفي حديث آخر كان يقول لأحدنا عند المعتبة: "ما له؟ تربت جبينه (٢) " (٣).

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن زائدة، عن منصور، عن إبراهيم قال: كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا عفوا (٤).

وقوله: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ أي: اتبعوا رسله وأطاعوا أمره واجتنبوا زجره ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ وهي أعظم العبادات لله ﷿: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ أي: لا يبرمون أمرًا حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها كما قال : ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] ولهذا كان يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك قلوبهم، وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب الوفاة حين طُعن جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر وهم: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف ، فاجتمع رأي الصحابة كلهم على تقديم عثمان عليهم .

﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ وذلك بالإحسان إلى خلق الله الأقرب إليهم منهم فالأقرب.

وقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)﴾ أي: فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا كما قال يوسف لإخوته: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [يوسف: ٩٢] مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه وكما عفا رسول الله عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ونزلوا من جبل التنعيم، فلما قدر عليهم منّ عليهم مع قدرته على الانتقام، وكذلك عفوه عن غوث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم فاستيقظ وهو في يده مصلتًا، فانتهره فوضعه من يده، وأخذ


(١) أخرجه الشيخان من حديث عائشة (صحيح البخاري، الأدب، باب قول النبي : "يسروا ولا تعسروا" ح ٦١٢٦، وصحيح مسلم، الفضائل، باب مباعدته للآثام. . . ح ٢٣٢٧).
(٢) قال الخطابي: يحتمل أن يكون المعنى: خرّ لوجهه فأصاب التراب جبينه، ويحتمل أن يكون دعاء له بالعبادة كأن يصلي فيترب جبينه، والأول أشبه (فتح الباري ١٠/ ٤٥٣).
(٣) أخرجه البخاري (الصحيح، الأدب، باب لم يكن النبي فاحشًا ولا متفاحشًا ح ٦٠٣١).
(٤) سنده صحيح، وزائدة هو ابن قدامة الثقفي يروي عنه سفيان بن عيينة. (تهذيب التهذيب ٣/ ٣٠٦).