للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ووضحت لكم وتتذكرونه وتندمون حيث لا ينفع الندم ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ﴾ أي: وأتوكل على الله وأستعينه وأقاطعكم وأباعدكم ﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ أي: هو بصير بهم تعالى وتقدس، فيهدي من يستحق الهداية ويضل من يستحق الإضلال، وله الحجة البالغة والحكمة التامة والقدر النافذ.

وقوله تعالى: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ أي: في الدنيا والآخرة، وأما في الدنيا فنجاه الله تعالى مع موسى ، وأما في الآخرة فبالجنة ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ وهو: الغرق في اليمِّ ثم النقلة منه إلى الجحيم، فإن أرواحهم تعرض على النار صباحًا ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار ولهذا قال: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ أي: أشده ألمًا وأعظمه نكالًا، وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور وهي قوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾.

ولكن هنا سؤال وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ وقد قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم هو: ابن القاسم أبو النضر، حدثنا إسحاق بن سعيد هو: ابن عمرو بن سعيد بن العاص، حدثنا سعيد يعني: أباه، عن عائشة أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئًا من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاكِ الله عذاب القبر. قالت : فدخل رسول الله عليَّ فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟ قال : "لا، من زعم ذلك؟ " قالت: هذه اليهودية لا أصنع إليها شيئًا من المعروف إلا قالت: وقاكِ الله عذاب القبر. قال : "كذبت يهود وهم على الله أكذب لا عذاب دون يوم القيامة" ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملًا بثوبه محمرة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته: "القبر كقطع الليل المظلم، أيها الناس لو تعلمون ما أعلم بكيتم كثيرًا وضحكتم قليلًا، أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق" (١). وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه.

وروى أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: سألتها امرأة يهودية فأعطتها فقالت لها: وقاكِ الله من عذاب القبر، فأنكرت عائشة ذلك، فلما رأت النبي قالت: له فقال : "لا" قالت عائشة : ثم قال لنا رسول الله بعد ذلك: "وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم" (٢). وهذا أيضًا على شرطهما.

فيقال: فما الجمع بين هذا وبين كون الآية مكية وفيها دلالة على عذاب البرزخ؟

والجواب: أن الآية دلَّت على عرض الأرواح على النار غدوًا وعشيًا في البرزخ، وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور إذ قد يكون ذلك مختصًا بالروح، فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ وتألمه بسببه، فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية الآتي ذكرها. وقد يقال: إن هذه


(١) أخرجه الإمام أحمد بسنده بنحوه (المسند ٤١/ ٦٦، ٦٧ ح ٢٤٥٢٠)، وصحح سنده محققوه، وسبقهم الحافظ ابن كثير في تصحيحه.
(٢) أخرجه الإمام أحمد بسنده ومتنه (المسند ٤٣/ ١٤٢ ح ٢٦٠٠٨)، وصحح سنده محققوه، وسبقهم الحافظ ابن كثير.