للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقال معمر، عن قتادة: بلغني أن عائشة سئلت: هل كان رسول الله يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت : لا. إلا بيت طرفة:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا … ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ

فجعل يقول: "من لم تزودِ بالأخبار" فقال أبو بكر: ليس هذا هكذا، فقال : "إني لست بشاعر ولا ينبغي لي" (١).

وثبت في الصحيحين أنه تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة ، ولكن تبعًا لقول أصحابه ، فإنهم كانوا يرتجزون وهم يحفرون فيقولون:

لا هُمّ لولا أنت ما اهتدينا … ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا … وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الأُلى قد بغوا علينا … إذا أرادوا فتنة أبينا

ويرفع صوته بقول أبينا ويمدها (٢)، وقد روى هذا بزحاف (٣) في الصحيحين أيضًا، وكذا ثبت أنه قال: يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو:

أنا النبي لا كذب … أنا ابن عبد المطلب (٤)

لكن قالوا: هذا وقع اتفاقًا من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه، وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جُندب بن عبد الله ، قال: كنا مع رسول الله في غار، فنُكبت أصبعه، فقال :

هل أنت إلا أصبع دُميت … وفي سبيل الله ما لقيت

وسيأتي عند قوله تعالى: ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ [النجم: ٣٢] إنشاد:

إن تغفر اللَّهم تغفر جمًا … وأي عبد لك ما ألمَّا (٥)

وكل هذا لا ينافي كونه ما علم شعرًا وما ينبغي له، فإن الله تعالى إنما علَّمه القرآن العظيم الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)[فصلت] وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضُلَّال وآراء الجهال، وقد كانت سجيته تأبى صناعة الشعر طبعًا وشرعًا، كما رواه أبو داود قال: حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثنا شرحبيل بن يزيد المعافري، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله يقول: "ما أبالي ما أوتيت


(١) أخرجه عبد الرزاق عن معمر به، وسنده كسابقه.
(٢) صحيح البخاري، المغازي، باب غزوة الخندق (ح ٤١٠٤)، وصحيح مسلم، الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب وهي الخندق (ح ١٨٠٣).
(٣) تقدم معناها ص ٣٥٣.
(٤) تقدم تخريجه في تفسير سورة التوبة آية ٢٥.
(٥) صحيح البخاري، الجهاد، باب من يُنكب في سبيل الله (ح ٢٨٠٢)، وصحيح مسلم، الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين (ح ١٧٩٦).