للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولهذا قال تعالى: ﴿وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ أي: المطر الذي ينزله فيحيي به العباد والبلاد ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾ أي: في البحر وإنما سيرها بالريح ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي: في التجارات والمعايش والسير من إقليم إلى إقليم، وقطر إلى قطر ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي: تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تُعدُّ ولا تُحصى.

ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾، هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد بأنه وإن كذّبه كثير من قومه ومن الناس، فقد كذبت الرسل المتقدمون مع ما جاؤوا أممهم به من الدلائل الواضحات. ولكن انتقم الله ممن كذّبهم وخالفهم وأنجى المؤمنين بهم ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: هو حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرمًا وتفضلًا، كقوله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤].

وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا موسى بن أعين، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أُم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله يقول: "ما من امرئ مسلم يُرَدّ عن عرض أخيه إلا كان حقًا على الله أن يردَّ عنه نار جهنم يوم القيامة" ثم تلا هذه الآية ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (١).

﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١)﴾.

يُبين تعالى كيف يخلق السحاب الذي ينزل منه الماء، فقال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ إما من البحر كما ذكره غير واحد، أو مما يشاء الله ﷿ ﴿فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ أي: يمده فيكثره وينميه، ويجعل من القليل كثير، ينشئ سحابة ترى في رأي العين مثل الترس، ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق، وتارة يأتي السحاب من نحو البحر ثقالًا مملوءة ماءً، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)[الأعراف]، وكذلك قال ههنا: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا﴾، قال مجاهد وأبو عمرو بن العلاء ومطر الوراق وقتادة: يعني قطعًا (٢).

وقال غيره: متراكمًا، قاله الضحاك (٣).

وقال غيره: أسود من كثرة الماء، تراه مدلهمًا ثقيلًا قريبًا من الأرض.

وقوله تعالى: ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ أي: فترى المطر وهو القطر، يخرج من بين ذلك


(١) سنده ضعيف لأن ليث وهو ابن أبي سُليم، وشهر بن حوشب كلاهما فيهما مقال.
(٢) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، وأخرجه الطبري وآدم بسند صحيح من طريق سعيد بن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: "القطر".
(٣) عزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن أبي حاتم عن الضحاك بلفظ: "سماء دون سماء".