للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقال ابن جرير: حدثنا ابن أبي زياد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا إسماعيل، عن عامر قال: جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: إن شياه هذا قطعت غزلًا لي، فقال شريح: نهارًا أم ليلًا؟ فإن كان نهارًا فقد برئ صاحب الشياه، وإن كان ليلًا فقد ضمن، ثم قرأ: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ. . .﴾ الآية (١)، وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث الليث بن سعد، عن الزهري، عن حرام بن محيصة، أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطًا فأفسدت فيه، فقضى رسول الله على أهل الحائط حفظها بالنهار، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها (٢).

وقد عُلِّل هذا الحديث، وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب الأحكام، وبالله التوفيق.

وقوله: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن حُميد أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى، فقال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري: إن فيما قصَّ الله من نبأ داود وسليمان والأنبياء حكما يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (٧٨)﴾ فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود، ثم قال - يعني الحسن -: إن الله اتخذ على الحكام ثلاثًا: لا يشتروا به ثمنًا قليلًا، ولا يتبعوا فيه الهوى، ولا يخشوا فيه أحدًا، ثم تلا ﴿يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: ٢٦]، وقال: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة: ٤٤]، وقال: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٤١] (٣).

قلت: أما الأنبياء ، فكلهم معصومون مؤيدون من الله ﷿، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله : "إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر" (٤).

فهذا الحديث يردُّ نصًّا ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار، والله أعلم.


(١) أخرجه الطبري بسنده ومتنه، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق إسماعيل به (المصنف ٩/ ٤٣٦)، وأخرجه عبد الرزاق من طريق الشعبي به (المصنف رقم ١٨٤٣٩)، وسنده صحيح.
(٢) المسند، وقال محققوه: إسناده مرسل صحيح (٣٩/ ٩٧ ح ٢٣٦٩١)، وسنن أبي داود، البيوع، باب المواشي تفسد زرع القوم ح ٣٥٦٩)، وسنن ابن ماجه، التجارات، باب الحكم فيما أفسدت المواشي (ح ٢٣٣٢)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (ح ١٨٨٨)، وأخرجه الحاكم من طريق الأوزاعي عن الزهري به، وصححه ووافقه الذهبي وذكر خلافًا في الإسناد (المستدرك ٢/ ٤٨) وقال ابن عبد البر: هذا الحديث وإن كان مرسلًا فهو حديث مشهور أرسله الأئمة، وحدث به الثقات واستعمله فقهاء الحجاز وتلقَّوه بالقبول (التمهيد ١١/ ٨٢).
(٣) سنده حسن.
(٤) صحيح البخاري، الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (ح ٧٣٥٢).