للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قومهم بما قالوا من أنه رجل مسحور من السِّحْر على المشهور، أو من السَّحْر وهو الرئة؛ أي: إن تتبعون إن اتبعتم محمدًا إلا بشرًا يأكل، كما قال الشاعر (١):

فإن تسألينا فيم نحن فإننا … عصافير من هذا الأنام المُسحَّر (٢)

وقال الراجز (٣):

نسحر بالطعام وبالشراب

أي: يُغَذي، وقد صوَّب هذا القول ابن جرير (٤)، وفيه نظر؛ لأنهم أرادوا ههنا أنه مسحور له رئي يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه، ومنهم من قال: شاعر، ومنهم من قال: كاهن، ومنهم من قال: مجنون، ومنهم من قال: ساحر، ولهذا قال تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٤٨)﴾ أي: فلا يهتدون إلى الحق ولا يجدون إليه مخلصًا.

قال محمد بن إسحاق في السيرة: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل واحد منهم مجلسًا يستمع فيه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.

فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه (٥).


(١) هو الصحابي الجليل لبيد بن ربيعة ، والبيت في ديوانه ص ٥٦.
(٢) أي نحن صغار ضعاف من ذراري قوم قد ذهبوا، والمسحر المعلل بالطعام والشراب.
(٣) هو الشاعر امرؤ القيس، وما ورد هو عجز وصدره: أرانا مُوضِعين لأمر غَيب (ديوان امرئ القيس ص ٩٧) واستشهد به معمر بن المثنى (مجاز القرآن ١/ ٣٨١)، والطبري.
(٤) ما قاله الطبري أنه غير بعيد عن الصواب.
(٥) ذكره ابن هشام (السيرة النبوية ١/ ٣٢٨)، وأخرجه البيهقي من طريق محمد بن إسحاق به (دلائل النبوة ٢/ ٢٠٦)، وسنده مرسل، والقصة مشهورة.