للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقوله: ﴿حَتَّى عَفَوْا﴾ أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، يقال: عفا الشيء إذا كثر. ﴿وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ يقول تعالى: ابتليناهم بهذا وهذا ليتضرعوا وينيبوا إلى الله فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا ولا انتهوا بهذا ولا بهذا، بل قالوا: قد مسنا من البأساء والضراء ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان والدهر، وإنما هو الدهر تارات وتارات، بل لم يتفطنوا لأمر الله فيهم ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين، وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء ويصبرون على الضرّاء كما ثبت في الصحيحين: "عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له" (١).

فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء، ولهذا جاء في الحديث: "لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيًا من ذنوبه، والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله ولا فيم أرسلوه" (٢) أو كما قال، ولهذا عقب هذه الصفة بقوله: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أي: أخذناهم بالعقوبة بغتة، أي على بغتة، وعدم شعور منهم أي أخذناهم فجأة كما في الحديث: "موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر" (٣).

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)﴾.

يخبر تعالى عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل، كقوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨)[يونس] أي: ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس، فإنهم آمنوا وذلك بعدما عاينوا العذاب، كما قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (١٤٨)[الصافات] وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٣٤)[سبأ].

وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ أي: آمنت قلوبهم بما جاء به الرسل وصدقت به واتبعوه، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: قطر السماء ونبات الأرض، قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أي: ولكن كذبوا رسلهم فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم.


(١) أخرجه مسلم فقط من حديث صُهيب (الصحيح، الزهد، باب المؤمن أمره كله خير ح ٢٩٩٩).
(٢) الشطر الأول فيما يخص المؤمن أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (الصحيح، صفات المنافقين، باب مثل المؤمن كالزرع ح ٢٨٠٩).
(٣) أخرجه الإمام أحمد من حديث عائشة (المسند ٤١/ ٤٩١ ح ٢٥٠٤٢)، وقال محققوه: إسناده واهٍ، عبيد الله بن الوليد، وهو الوصافي وهو متروك.