للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلهذا ذكر كلًا من حكميه مفصلًا، والله أعلم، ولهذا لما كان الكلب، من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال: "إن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" (١) وهذا صحيح ثابت في الصحيحين، وهو أيضًا مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين، فقالوا: لا يحل ما أكل منه الكلب، حكي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس، وبه قال الحسن والشعبي والنخعي: وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه، وأحمد بن حنبل والشافعي في المشهور عنه.

وروى ابن جرير في تفسيره عن علي وسعيد وسلمان وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس: إن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب، حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وغيرهم: يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة (٢)، وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم، وأومأ في الجديد إلى قولين، قال ذلك الإمام أبو نصر بن الصباغ وغيره من الأصحاب عنه.

وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي عن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله أنه قال في صيد الكلب: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك" (٣) ورواه أيضًا النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن أعرابيًا يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله، فذكر نحوه (٤).

وقال محمد بن جرير في تفسيره: حدثنا عمران بن بكار الكلاعي، حدثنا عبد العزيز بن موسى هو: اللاحوني، حدثنا محمد بن دينار هو: الطاحي، عن أبي إياس وهو معاوية بن قرة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان الفارسي، عن رسول الله قال: "إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه، فليأكل ما بقي" (٥) ثم إن ابن جرير علله بأنه قد رواه قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب، عن سلمان موقوفًا.

وأما الجمهور فقدّموا حديث عدي على ذلك، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره، وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه فطال عليه الفصل ولم يجئ، فأكل منه لجوعه ونحوه فإنه لا بأس بذلك، لأنه والحالة هذه لا يخشى أنه إنما أمسك على نفسه بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة، فإنه يظهر منه أنه أمسك على نفسه، والله أعلم.

فأما الجوارح من الطيور فنص الشافعي على أنها كالكلب، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور، ولا يحرم عند الآخرين، واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، قالوا: لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه، وأيضًا فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد فيعفى عن ذلك، وأيضًا فالنص إنما


(١) تتمة حديث عدي بن حاتم وقد تقدم عزوه في تفسير "الموقوذة" من هذه الآية.
(٢) سيأتي تخريج هذه الآثار في الآية ٤ من هذه السورة بعنوان: ذكر الآثار بذلك.
(٣) سنن أبي داود، الصيد، باب في الصيد (ح ٢٨٥٢)، وحكم عليه الحافظ بأنّ إسناده جيد قوي.
(٤) سنن النسائي، الصيد، باب الرخصة في ثمن كلب الصيد ٧/ ١٩١، وسنده حسن.
(٥) أخرجه الطبري بسنده ومتنه، وفيه محمد بن دينار الطاحي: صدوق سيء الحفظ كما في التقريب، ولعله هو الذي رفع الحديث.