للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإنهم شاهدوا رفعه. وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود، أن المصلوب هو المسيح بن مريم، حتَّى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت، ويقال: إنه خاطبها (١)، واللّه أعلم، وهذا كله من امتحان الله عباده، لما له في ذلك من الحكمة البالغة.

وقد وضح الله الأمر وجلاه وبينه، وأظهره في القرآن العظيم، الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات، فقال تعالى: وهو أصدق القائلين ورب العالمين، المطلع على السرائر والضمائر، الذي يعلم السر في السموات والأرض، العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أي: رأوا شبهه فظنوه إياه، ولهذا قال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ يعني: بذلك من ادعى أنه قتله من اليهود، ومن سلمه إليهم من جهال النصارى، كلهم في شكّ من ذلك وحيرة وضلال وسعر، وبهذا قال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي: وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨)﴾ أي: منيع الجناب، لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ [ببابه] (٢) ﴿حَكِيمًا﴾ أي: في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم والأمر القديم.

قال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا أحمد بن سنان، حَدَّثَنَا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلًا من الحواريين، يعني: فخرج عليهم من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة، بعد أن آمن بي، قال: ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنًا، فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام ذلك الشاب، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب، فقال: أنا، فقال: أنت هو ذاك، فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة (٣) في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن من به، وافترقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة، كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية (٤)، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية (٥)، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء


(١) هذه القصة ورد معظمها بأسانيد ثابتة كما سيأتي، وهي من أخبار أهل الكتاب التي لا تخالف القرآن والسنة بل غالبًا ما توافقهما.
(٢) كذا في (حم) و (مح) وفي الأصل: "به".
(٣) روزنة أي: شباك أو نافذة صغيرة.
(٤) اليعقوبية: هم أصحاب يعقوب، قالوا بالأقانيم الثلاثة بأن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة: الوجود والعلم والحياة، وهذه الأقانيم ليست زائدة الذات ولا هي هو، واتحدت الكلمة بجسد عيسى على طريق الظهور. (ينظر: الملل والنحل ١/ ٢٢٤ - ٢٢٥).
(٥) النسطورية: هم أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه قال: إن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة … واتحدت الكلمة بجسد عيسى لا على طريق الامتزاج كما قالت الملكانية، ولا على طريق الظهور كما قالت اليعقوبية، ولكن كإشراق الشمس في كوة على بلورة وكظهور النقش في الشمع إذا طبع الخاتم (المصدر السابق بتصرف).