للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا، ولهذا قال: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليمًا كليًا من غير ممانعة ولا مدافعة، ولا منازعة، كما ورد في الحديث: "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لم جئت به" (١).

وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، قال: خاصم الزبير رجلًا في شريج من الحرة (٢)، فقال النبي : "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله ، ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك". واستوعى النبي للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ (٣). هكذا رواه البخاري ههنا، أعني في كتاب التفسير من صحيحه من حديث معمر، وفي كتاب الشرب من حديث ابن جريج ومعمر أيضًا، وفي كتاب الصلح من حديث شعيب بن أبي حمزة، ثلاثتهم عن الزهري، عن عروة … فذكره (٤)، وصورته صورة الإرسال، وهو متصل في المعنى، وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال، فقال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلًا من الأنصار قد شهد بدرًا إلى النبي في شراج الحرة، كان يسقيان بها كلاهما، فقال النبي للزبير "اسق ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله ، ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" فاستوعى النبي للزبير حقه، وكان النبي قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله استوعى النبي للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة: فقال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾، هكذا رواه الإمام أحمد (٥)، وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير، فإنه لم يسمع منه، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله، فإن أبا


(١) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (ح ١٥)، وضعفه الألباني بسبب ضعف نعيم بن حماد أحد رواة هذا الحديث، وصححه النووي وتعقبه ابن رجب (جامع العلوم والحكم ٢/ ٤٣١).
(٢) شريج من الحرة: أي مسيل الماء من الحرة إلى السهل، والحرة هي الأرض ذات الحجارة السود (النهاية ٢/ ٤٥٦).
(٣) أخرجه البخاري بسنده ومتنه (الصحيح، تفسير سورة النساء، باب ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … ﴾ [النساء: ٦٥] ح ٤٥٨٥).
(٤) الصحيح، المساقاة، باب شرب الأعلى قبل الأسفل (ح ٢٣٦١، ٢٣٦٢)، وكتاب الصلح، باب إذا أشار الإمام بالصلح … (ح ٢٧٠٨).
(٥) أخرجه الإمام أحمد بسنده ومتنه (المسند ح ١٤١٩).