للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد فيهم، فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم. ولهذا قال له: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي: لا تعنفهم على ما في قلوبهم ﴿وَعِظْهُمْ﴾ أي: وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، ﴿وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾ أي: وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (٦٤) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾.

يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ﴾ أي: فرضت طاعته على من أرسله إليهم.

وقوله: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قال مجاهد؛ أي: لا يطيع أحد إلا بإذني (١). يعني: لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك.

كقوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ [آل عمران: ١٥٢] أي: عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم. وقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية، يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول ، فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم، ولهذا قال: ﴿لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه [الشامل] (٢) الحكاية المشهورة عن العتبي (٣)، قال: كنت جالسًا عند قبر النبي ، فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ وقد جئتك مستغفرًا لذنبي مستشفعًا بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه … فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفدا لقبر أنت ساكنه … فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم انصرف الأعرابي، فغلبتني عيني فرأيت النبي في النوم، فقال: "يا عتبي، إلحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له" (٤).

وقوله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق


(١) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.
(٢) كذا في (حم) و (مح) وفي الأصل: "الشمائل" وهو تصحيف.
(٣) العتبي: هو محمد بن أحمد بن عبد العزيز القرطبي، ومن تصانيفه العتبية وهي مستخرجة من سماعات مالك بن أنس، مات سنة ٢٥٤ هـ (جذوة المقتبس ص ٣٦، وشذرات الذهب ٢/ ١٢٩).
(٤) وهذه القصة ذكرها النووي في المجموع ٨/ ٢١٧، وهي تعتمد على المنامات، وعدم ذكرها أولى.