للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس، وأنه تبرأ ممن عبدها ورد أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، كقول عيسى : ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)[المائدة]، وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى لا تجويز وقوع ذلك.

وقال عبد الله بن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه، عن [عبد الرحمن بن جُبير] (١)، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله تلا قول إبراهيم : ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ الآية، وقول عيسى : ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة]، ثم رفع يديه ثم قال: "اللهم، أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي" وبكى فقال الله: اذهب يا جبريل إلى محمد، وربك أعلم، وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله، فأخبره رسول الله ما قال، فقال الله: اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك (٢).

﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)﴾.

وهذا يدل على أن هذا دعاء ثانٍ بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها، وذلك قبل بناء البيت، وهذا كان بعد بنائه تأكيدًا ورغبة إلى الله ﷿، ولهذا قال: ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾. وقوله: ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ قال ابن جرير: هو متعلق بقوله: ﴿الْمُحَرَّمِ﴾ أي: إنما جعلته محرمًا ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيره: لو قال: (أفئدة الناس) لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم (٣)، ولكن قال: ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ فاختصَّ به المسلمون.

وقوله: ﴿وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ أي: ليكون ذلك عونًا لهم على طاعتك، وكما أنه وادٍ غير ذي زرع فاجعل له ثمارًا يأكلونها، وقد استجاب الله ذلك كما قال: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾ [القصص: ٥٧] وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لخليله إبراهيم .

﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (٤١)﴾.

قال ابن جرير: يقول تعالى مخبرًا عن إبراهيم خليله أنه قال: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ﴾ أي: أنت تعلم قصدي في دعائي، وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك، فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها، لا يخفى عليك منها شيء


(١) في النسخ الخطية: "ابن جرير"، والتصويب من صحيح مسلم.
(٢) أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن وهب به (الصحيح، الإيمان، باب دعاء النبي لأمته وبكائه … ح ٢٠٢).
(٣) قول ابن عباس أخرجه الطبري بسند حسن من طريق سعيد بن جبير عنه، وقول مجاهد أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق منصور عنه، وقول سعيد بن جبير أخرجه الطبري بسندين يقوي أحدهما الآخر.