للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري خوفًا منها. فيقول: عبدي إنما عملت ذلك خوفًا من ناري، فإني قد أعتقتك من النار، ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي، فيدخل هو ومن معه الجنة.

ثم يؤتى برجل من الصنف الثالث فيقول: عبدي لماذا عملت؟ فيقول: ربِّ حبًا لك وشوقًا إليك، وعزتك لقد أسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقًا إليك وحُبّا لك. فيقول : عبدي إنما عملت حُبَّا لي وشوقًا إليَّ، فيتجلى له الربُّ ويقول: ها أنا ذا فانظر إليَّ ثم يقول: من فضلي عليك أن أعتقك من النار وأبيحك جنتي وأزيرك ملائكتي وأسلم عليك بنفسي فيدخل هو ومن معه الجنة (١).

﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦١)﴾.

يخبر تعالى نبيه أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة، وأنه لا يعزب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٥٩)[الأنعام] فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات، وكذلك الدواب السارحة في قوله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ الآية [الأنعام] وقال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ الآية [هود: ٦].

وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء، فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة؟ كما قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩)[الشعراء]، ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أي: إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راءون سامعون، ولهذا قال لما سأله جبريل عن الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (٢).

﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)﴾.

يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما فسرهم به، فكل من كان تقيًا كان لله وليًا أنه ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي: فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على ما وراءهم في الدنيا.


(١) أخرجه ابن أبي حاتم بسنده ومتنه، وسنده معضل لأن موسى بن الصباح تابع تابعي، ومثل هذه الرواية لا تؤخذ إلا من أقوال الصحابة وأحاديث النبي .
(٢) تقدم تخريجه وصحته في تفسير سورة الأعراف آية ١٨٧.