هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب ولكن جاءهم من الله ما لا قِبَل لأحد به ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته، فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له وأتبعهم له وأشدهم له انقيادًا كما عرف السحرة بعلمهم بفنون السحر أن هذا الذي فعله موسى ﵇ لا يصدر إلا عن مؤيد مسدد مرسل من الله، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله، وكذلك عيسى ﵇ بعث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى فكان يبريء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه، فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال:"ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا"(١).
وقوله: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ يقول: بل كذب هؤلاء بالقرآن ولم يفهموه ولا عرفوه ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ أي: ولم يحصلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلًا وسفهًا ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أي: من الأمم السالفة ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ أي: فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلمًا وعلوًا وكفرًا وعنادًا وجهلًا؟ فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم.
وقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ الآية، أي: ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أرسلت به ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ﴾ بل يموت على ذلك ويبعث عليه ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ أي: وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه ومن يستحق الضلالة، فيضله وهو المعادل الذي لا يجور بل يعطي كلًّا ما يستحقه، ﵎ وتقدس وتنزه لا إله إلا هو.
يقول تعالى لنبيه ﷺ: وإن كذبك هؤلاء المشركون فتبرأ منهم ومن عملهم ﴿فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾ كقوله تعالى: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (٤) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)﴾ [الكافرون]، وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين: ﴿إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: ٤].
وقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ أي: يسمعون كلامك الحسن والقرآن العظيم والأحاديث الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأديان والأبدان، وفي هذا كفاية عظيمة ولكن ليس ذلك
(١) أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة ﵁ (صحيح البخاري، فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي … ح ٤٩٨١)، وصحيح مسلم، الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة محمد ﷺ (ح ١٥٢).