للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء (١) كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" (٢).

وقوله: ﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا﴾ أي: أشد استدراجًا وإمهالًا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب وإنما هو في مُهلة ثم يؤخذ على غَرة منه، والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله ويحصونه عليه، ثم يعرضونه على عالم الغيب والشهادة فيجازيه على الجليل والحقير النقير والقمطير.

ثم أخبر تعالى أنه ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ أي: يحفظكم ويكلؤكم بحراسته ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا﴾ أي: بسرعة سيرهم رافقين فبينما هم كذلك إذ ﴿جَاءَتْهَا﴾ أي: تلك السفن ﴿رِيحٌ عَاصِفٌ﴾ أي: شديدة ﴿وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ أي: اغتلم (٣) البحر عليهم ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ أي: هلكوا ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أي: لا يدعون معه صنمًا ولا وثنًا بل يفردونه بالدعاء والابتهال كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (٦٧)[الإسراء] وقال ههنا: ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ﴾ أي: هذه الحال ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ أي: لا نشرك بك أحدًا ولنفردنك بالعبادة هناك كما أفردناك بالدعاء ههنا،

قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ﴾ أي: من تلك الورطة ﴿إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أي: كأن لم يكن من ذلك شيء ﴿كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾ [يونس: ١٢].

ثم قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحدًا غيركم، كما جاء في الحديث: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" (٤).

وقوله: ﴿مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي: إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ﴾ أي: مصيركم ومآلكم ﴿فَنُنَبِّئُكُمْ﴾ أي: فنخبركم بجميع أعمالكم ونوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.


(١) قال الحافظ ابن حجر: قال ابن قتيبة في "كتاب الأنواء": ومعنى النوء: سقوط نجم في المغرب من النجوم الثمانية والعشرين التي هي منازل القمر. قال: وهو مأخوذ من ناء إذا سقط. وقال آخرون: بل النوء طلوع نجم منها، وهو مأخوذ من ناء إذا نهض، ولا تخالف بين القولين في الوقت لأن كل نجم منها إذا طلع من المشرق وقع حال طلوعه آخر في المغرب لا يزال ذلك مستمرًا إلى أن تنتهي الثمانية والعشرون بانتهاء السنة، فإن لكل واحد منها ثلاثة عشر يومًا تقريبًا. قال: وكانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النوء، إما بصنعهم واما بعلامته، فأبطل الشرع قولهم وجعله كفرًا (فتح الباري ٢/ ٥٢٣، ٥٢٤).
(٢) أخرجه البخاري من حديث زيد بن خالد الجهني (الصحيح، الاستسقاء باب قول الله تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)﴾ [الواقعة]، ح ١٠٣٨).
(٣) أي: اشتد وهاج.
(٤) أخرجه أبو داود من حديث أبي بكرة (السنن، الأدب، باب في النهي عن البغي ح ٤٩٠٢)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (ح ٤٠٩٨)، وأخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح (السنن، صفة القيامة، باب انظروا إلى من هو أسفل منكم ح ٢٥١٣)، وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك ٢/ ٣٥٦).