للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

لعابديها، بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم، ولهذا قال: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)﴾ أي: أتشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئًا ولا يستطيع ذلك، كقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)[الحج] أخبر تعالى أن آلهتهم لو اجتمعوا كلهم ما استطاعوا خلق ذبابة، بل لو سلبتهم الذبابة شيئًا من حقير المطاعم وطارت، لما استطاعوا إنقاذه منها، فمن هذه صفته وحاله كيف يعبد ليرزق ويستنصر؟ ولهذا قال تعالى: ﴿لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ أي: بل هم مخلوقون مصنوعون كما قال الخليل: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦)[الصافات].

ثم قال تعالى: ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا﴾ أي: لعابديهم ﴿وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ يعني: ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء، كما كان الخليل يكسر أصنام قومه ويهينها غاية الإهانة كما أخبر تعالى عنه في قوله: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣)[الصافات] وقال تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨)[الأنبياء] وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل ، وكانا شابّين قد أسلما لما قدم رسول الله المدينة، فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبًا للأرامل ليعتبر قومهما بذلك ويرتؤوا لأنفسهم، فكان لعمرو بن الجموح - وكان سيدًا في قومه - صنم يعبده ويطيّبه، فكانا يجيئان في الليل فينكسّانه على رأسه ويلطخّانه بالعذرة، فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيّبه ويضع عنده سيفًا ويقول له: انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضًا، حتى أخذاه مرّة فقرناه مع جرو كلب ميّت، ودلّياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل، وقال:

تالله لو كنت إلهًا مُستدن … لم تكُ والكلب جميعًا في قرن (١)

ثم أسلم فحسن إسلامه، وقتل يوم أُحد شهيدًا (٢) وأرضاه وجعل جنّة الفردوس مأواه.

وقوله: ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ﴾ الآية، يعني: أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها، كما قال إبراهيم: ﴿يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم: ٤٢].

ثم ذكر تعالى أنها عبيد مثل عابديها أي مخلوقات مثلهم، بل الأناس أكمل منها لأنها تسمع وتبصر وتبطش، وتلك لا تفعل شيئًا من ذلك.

وقوله: ﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾ الآية، أي: استنصروا بها علي فلا تؤخروني طرفة عين، واجهدوا جهدكم

﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦)﴾ أي: الله حسبي وكافني، وهو


(١) هذه القصة والرجز رواها ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام ٦/ ٣٥٤، وذكرها ابن الأثير عن ابن إسحاق (أسد الغابة ٤/ ٢٠٧).
(٢) ينظر الإصابة لابن حجر ٧/ ٩٤ - ٩٥.