للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ تصغير لشأن الدنيا، وتحقير لأمرها، وأنها دنيئة فانية، قليلة زائلة، كما قال تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧)﴾] [الأعلى] وقال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ [الرعد: ٢٦] وقال تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: ٩٦] وقال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [القصص: ٦٠]. وفي الحديث: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع إليه" (١)؟

قال قتادة في قوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ قال: هي متاع هي متاع متروكة [أوشكت] (٢) - والله الذي لا إله إلا هو - أن تضمحل عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله (٣).

وقوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ كقوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦)[البقرة]، أي: لا بدّ أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، ويبتلى المؤمن على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسليًا لهم عما ينالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين، وآمرًا لهم بالصفح والصبر والعفو حتى يفرج الله، فقال تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير، أن أُسامة بن زيد أخبره، قال: كان النبي وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ قال: وكان رسول الله يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم (٤). هكذا رواه مختصرًا.

وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولًا، فقال: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير، أن أُسامة بن زيد، حدثه أن رسول الله ركب على حمار عليه قطيفة فدكية، وأردف أُسامة بن زيد وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، قال: حتى مرّ بمجلس فيه عبد الله بن أُبي بن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أُبي، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خَمّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه


(١) أخرجه مسلم من حديث المستورد بن شداد (الصحيح، الجنة وصفة نعيمها، باب فناء الدنيا ح ٢٨٥٨).
(٢) كذا في (عف) و (ح) و (حم) و (مح) والتخريج، وفي الأصل: "وسكن"، وهو تصحيف.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم بسنده ومتنه، وسنده صحيح، وأخرجه البخاري من طريق أبي اليمان به مطولًا كما سيأتي.