للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

تفرقت أصحابه شيعًا بعده، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا: هو الله، وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن ورد على كل فريق، فاستمروا على ذلك قريبًا من ثلاثمائة سنة، ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة ليفسده، فإنه كان فيلسوفًا، وقيل: جهلًا منه إلا أنه بدل لهم دين المسيح وحرفه، وزاد فيه ونقص منه، ووضعت له القوانين، والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة، وأحلَّ في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوروا له الكنائس، وزادوا في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، واتبعه الطائفة الملكية منهم، وهم في هذا كله قاهرون لليهود، أيَّدهم الله عليهم، لأنهم أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفارًا عليهم لعائن الله، فلما بعث الله محمدًا ، فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق، كانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض، إذ [قد] (١) صدَّقوا الرسول النبيَّ الأُمي العربي، خاتم الرسل وسيد ولد آدم، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق، فكانوا أولى بكل نبي من أُمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته، مع ما قد حرفوا وبدلوا، ثم لو لم يكن شيء من ذلك، لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمدًا من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، ولا يزال قائمًا منصورًا ظاهرًا على كل دين، فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واجتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدول، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر، وسلبوهما كنوزهما، وأُنفقت في سبيل الله كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم ﷿ في قوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي﴾ الآية [النور: ٥٥]، فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقًّا، سلبوا النصارى بلاد الشام وأجلوهم إلى الروم فلجؤوا إلى مدينتهم القسطنطينية، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة.

وقد أخبر الصادق المصدوق أُمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويسفيئون ما فيها من الأموال، ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جدًّا، لم يرَ الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها، وقد جمعت في هذا جزءًا مفردًا، ولهذا قال تعالى: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ أي: يوم القيامة ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦)﴾ وكذلك فعل تعالى بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه وأطراه (٢) من النصارى، عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك، وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشقّ ﴿وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ [الرعد: ٣٤]

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ أي: في الدنيا


(١) "قد" سقط من الأصل واستدرك من (عف) و (ح).
(٢) كذا في (عف) و (ح) و (حم)، وفي الأصل: "والمره" وهو تصحيف.