وَلَقَّنَهُ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْزُبُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّ لِلَّهِ ابْنًا. وَالَّذِينَ يَقُولُ لَهُم هَذَا الْمَقُول هُمُ الْمُشْرِكُونَ الزَّاعِمُونَ ذَلِكَ فَهَذَا غَرَضُ الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَالِ لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِقَوْلِهِ:
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ مَعَ عِلْمِ السَّامِعِينَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرُوجُ عِنْدَهُ ذَلِكَ. وَنَظْمُ الْآيَةِ دَقِيقٌ وَمُعْضِلٌ، وَتَحْتَهُ مَعَانٍ جَمَّةٌ:
وَأَوَّلُهَا وَأَوْلَاهَا: أَنَّهُ لَوْ يَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ أَبْنَاءً لَكَانَ أَوَّلَ مَنْ يَعْبُدُهُمْ، أَيْ أَحَقُّ مِنْكُمْ بِأَنْ أَعْبُدَهُمْ، أَيْ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَقَلَّ فَهْمًا مِنْ أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا ابْنًا لِلَّهِ وَلَا يَعْتَرِفَ لِذَلِكَ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ ابْنَ اللَّهِ يَكُونُ مُنْسَلًّا مِنْ ذَاتٍ إِلَهِيَّةٍ فَلَا يَكُونُ إِلَّا إِلَهًا وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الْإِلَهَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، فَالدَّلِيلُ مُرَكَّبٌ مِنْ مُلَازَمَةٍ شَرْطِيَّةٍ، وَالشَّرْطُ فَرْضِيٌّ، وَالْمُلَازَمَةُ بَيْنَ الْجَوَابِ وَالشَّرْطِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عَاقِلٌ دَاعٍ إِلَى الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ فَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ مَا يُوَرِّطُهُ، وَأَيْضًا لَا يَرْضَى لَهُمْ إِلَّا مَا رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا مُنْتَهَى النُّصْحِ لَهُمْ، وَبِهِ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ وَيُفِيدُ أَنَّهُ ثَابِتُ الْقَدَمِ فِي تَوْحِيدِ الْإِلَهِ.
وَنُفِيَ التَّعَدُّدُ بِنَفْيِ أَخَصِّ أَحْوَالِ التَّعَدُّدِ وَهُوَ التَّعَدُّدُ بِالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ كَتَعَدُّدِ الْعَائِلَةِ، وَهُوَ أَصْلُ التَّعَدُّدِ فَيَنْتَفِي أَيْضًا تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ الْأَجَانِبِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لِلْحَجَّاجِ. وَقَدْ قَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ: لَأُبَدِّلَنَّكَ بِالدُّنْيَا نَارًا تَلَظَّى فَقَالَ سَعِيدٌ:
لَوْ عَرَفْتُ أَنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ مَا عَبَدْتُ إِلَهًا غَيْرَكَ، فَنَبَّهَهُ إِلَى خَطَئِهِ بِأَنَّ إِدْخَالَ النَّارِ مِنْ خَصَائِصِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مُرَكَّبٌ مِنْ قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ أَوَّلُ جُزْأَيْهَا وَهُوَ الْمُقَدَّمُ بَاطِلٌ، وَثَانِيهِمَا وَهُوَ التَّالِي بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ بُطْلَانَ التَّالِي لَازِمٌ لِبُطْلَانِ الْمُقَدَّمِ، كَقَوْلِكَ:
إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا فَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ بِمُتَسَاوِيَيْنِ، وَالِاسْتِدْلَالُ هُنَا بِبُطْلَانِ التَّالِي عَلَى بُطْلَانِ الْمُقَدَّمِ لِأَنَّ كَون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَابِدًا لِمَزْعُومٍ بُنُوَّتُهُ لِلَّهِ أَمْرٌ مُنْتَفٍ بِالْمُشَاهَدَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ نَاهِيًا إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَهَذَا عَلَى وِزَانِ الِاسْتِدْلَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: ٢٢] ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ جُعِلَ شَرْطُهَا بِأَدَاةٍ صَرِيحَةٍ فِي الِامْتِنَاعِ، وَهَذِهِ جُعِلَ شَرْطُهَا بِأَدَاةٍ غَيْرِ صَرِيحَةٍ فِي الِامْتِنَاعِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute