بِتَسْخِيرِ الْمَوْجُودَاتِ وَرَبْطِ أَحْوَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَلَى وَجْهٍ يَتِمُّ بِهِ مُرَادُ اللَّهِ فَلِذَلِكَ جِيءَ بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ فَالْاسْتِدْرَاجُ تَعَلُّقٌ تَنْجِيزِيٌّ لِقُدْرَةِ اللَّهِ فَيَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ الْآيَة [الْأَنْفَال: ١٢] .
وَأَمَّا الْإِمْلَاءُ فَهُوَ عِلْمُ اللَّهِ بِتَأْجِيلِ أَخْذِهِمْ. وَتَعَلُّقُ الْعِلْمِ يَنْفَرِدُ بِهِ اللَّهُ فَلِذَلِكَ جِيءَ مَعَهُ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ. وَحَصَلَ فِي هَذَا الْاخْتِلَافِ تَفَنُّنٌ فِي الضَّمِيرَيْنِ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ [١٨٢- ١٨٣] : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا وَعَدٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّصْرِ وَتَثْبِيتٌ لَهُ بِأَنَّ اسْتِمْرَارَ الْكَافِرِينَ فِي نِعْمَةٍ إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ وَإِمْلَاءٌ وَضَرْبٌ يُشْبِهُ الْكَيْدَ وَأَنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ فِيهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: ١٩٦- ١٩٧] .
وَمَوْقِعُ إِنَّ مَوْقِعُ التَّسَبُّبِ وَالتَّعْلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٦] .
وَإِطْلَاقُ الْكَيْدِ عَلَى إِحْسَانِ اللَّهِ لِقَوْمٍ مَعَ إِرَادَةِ إِلْحَاقِ السُّوءِ بِهِمْ إِطْلَاقٌ عَلَى وَجْهِ الْاسْتِعَارَةِ لِمُشَابَهَتِهِ فِعْلَ الْكَائِدِ مِنْ حَيْثُ تَعْجِيلُ الْإِحْسَانِ وتعقيبه بالإساءة.
[٤٦]
[سُورَة الْقَلَم (٦٨) : آيَة ٤٦]
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦)
إِضْرَابٌ آخَرُ لِلْانْتِقَالِ إِلَى إِبْطَالٍ آخَرَ مِنْ إِبْطَالِ مَعَاذِيرِهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبْتَدِئِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتابٌ [الْقَلَم:
٣٦- ٣٧] أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ [الْقَلَم: ٣٩] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ [الْقَلَم: ٤١] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ نَفَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ تُؤَيِّدُ صَلَاحَ حَالِهِمْ، أَوْ وَعْدٌ لَهُمْ بِإِعْطَاءِ مَا يَرْغَبُونَ، أَوْ أَوْلِيَاءٌ يَنْصُرُونَهُمْ، عَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ ضُرٌّ فِي إِجَابَةِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، اسْتِقْصَاءً لِقَطْعِ مَا يُحْتَمَلُ مِنَ الْمَعَاذِيرِ بِافْتِرَاضِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُمْ أَجْرًا عَلَى هَدْيِهِ إِيَّاهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنْ إجَابَته ثقل عزم الْمَالِ عَلَى نُفُوسِهِمْ.
فَالْاسْتِفْهَامُ الَّذِي تُؤْذِنُ بِهِ أَمْ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ لِفَرْضِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يُخَامِرُ نُفُوسَهُمْ فَرْضًا اقْتَضَاهُ اسْتِقْرَاءُ نَوَايَاهُمْ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِقْبَالِ عَلَى دَعْوَةِ الْخَيْرِ وَالرُّشْدِ.