[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٤٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦)
جُمْلَةُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ اسْتِئْنَافٌ ثَان من جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَة: ٢٤٣] سِيقَ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ لِجُمْلَةِ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٩٠] وَفِيهَا زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِفَظَاعَةِ حَالِ التَّقَاعُسِ عَنِ الْقِتَالِ بعد التهيؤ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالتَّكْرِيرُ فِي مَثَلِهِ يُفِيدُ مَزِيدَ تَحْذِيرٍ وَتَعْرِيضٍ بِالتَّوْبِيخِ فَإِنَّ الْمَأْمُورِينَ بِالْجِهَادِ فِي قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَخْلَوْنَ مَنْ نَفَرٍ تَعْتَرِيهِمْ هَوَاجِسُ تُثَبِّطُهُمْ عَنِ الْقِتَالِ، حُبًّا لِلْحَيَاةِ وَمِنْ نَفَرٍ تَعْتَرِضُهُمْ خَوَاطِرُ تُهَوِّنُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ أَكْدَارِ الْحَيَاةِ، وَمَصَائِبِ الْمَذَلَّةِ، فَضَرَبَ اللَّهُ لِهَذَيْنِ الْحَالَيْنِ مَثَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَالثَّانِي قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَقَدْ قَدَّمَ أَحَدَهُمَا وَأَخَّرَ الْآخَرَ لِيَقَعَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ بَيْنَهُمَا.
وَمُنَاسَبَةُ تَقْدِيمِ الْأُولَى أَنَّهَا تُشَنِّعُ حَالَ الَّذِينَ اسْتَسْلَمُوا وَاسْتَضْعَفُوا أَنْفُسَهُمْ، فَخَرَجُوا
مِنْ دِيَارِهِمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ أَنْسَبُ بِأَنْ تُقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْبَيْضَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بَعْدَهَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْقَبُولِ مِنَ السَّامِعِينَ لَا مَحَالَةَ، وَمُنَاسَبَةُ تَأْخِيرِ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا تَمْثِيلُ حَالِ الَّذِينَ عَرَفُوا فَائِدَةَ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِمْ: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ إِلَخْ. فَسَأَلُوهُ دُونَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا عُيِّنَ لَهُمُ الْقِتَالُ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَمَوْضِعُ الْعِبْرَةِ هُوَ التَّحْذِيرُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ أَوْ بَعْدَ كُتُبِهِ عَلَيْهِمْ، فَلِلَّهِ بَلَاغَةُ هَذَا الْكَلَامِ، وَبَرَاعَةُ هَذَا الْأُسْلُوبِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى أَلَمْ تَرَ [الْبَقَرَة: ٢٤٣] فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ.
وَالْمَلَأُ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ، وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمِلْءِ وَهُوَ تَعْمِيرُ الْوِعَاءِ بِالْمَاءِ وَنَحْوِهِ، وَأَنَّهُ مُؤْذِنٌ بِالتَّشَاوُرِ لِقَوْلِهِمْ: تَمَالَأَ الْقَوْمُ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَالْكُلُّ مَأْخُوذٌ مِنْ مِلْءِ الْمَاءِ فَإِنَّهُم كَانُوا يملأون قِرَبَهُمْ وَأَوْعِيَتَهُمْ كُلَّ مَسَاءٍ عِنْدَ الْوِرْدِ، فَإِذَا مَلَأَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute