عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَبْلَ النُّبُوءَةِ فِي بَلْدَحَ وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ مِنْ سُفْرَتِهِ، فَقَالَ زَيْدٌ «إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ» تَوَهُّمًا مِنْهُ أنّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدِينُ بِدِينِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَلْهَمَ الله محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّكُوتَ عَنْ إِجَابَتِهِ إِلْهَامًا لِحِفْظِ السِّرِّ الْمُدَّخَرِ فَلَمْ يَقِلْ لَهُ إِنِّي لَا أَذْبَحُ عَلَى نُصُبٍ. وَلَقِيَ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ غَيْرَ مَرَّةٍ بِمَكَّةَ. وَلَقِيَ بُحَيْرَا الرَّاهِبَ. وَلَمْ يَقْتَدِ بِأَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ وَبَقِيَ عَلَى الْفِطْرَةِ إِلَى أَنْ جَاءَتْهُ الرِّسَالَةُ.
وَالِاقْتِدَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْقُدْوَةِ- بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا- وَقِيَاسُهُ عَلَى الْإِسْوَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَسْرَ فِيهِ أَشْهَرُ. وَقَالَ فِي «الْمِصْبَاحِ» : الضَّمُّ أَكْثَرُ. وَوَقَعَ فِي «الْمَقَامَاتِ» لِلْحَرِيرِيِّ «وَقُدْوَةُ الشَّحَّاذِينَ» فَضُبِطَ بِالضَّمِّ. وَذَكَرَهُ الْوَاسِطِيُّ فِي شَرْحِ أَلْفَاظِ الْمَقَامَاتِ» فِي الْقَافِ الْمَضْمُومَةِ، وَرَوَى فِيهِ فَتْحَ الْقَافِ أَيْضًا، وَهُوَ نَادِرٌ. وَالْقُدْوَةُ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ غَيْرُهُ مِثْلَ عَمَلِهِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي اللُّغَةِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ فَلَمْ يُسْمَعُ إِلَّا اقْتَدَى. وَكَأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا الْقُدْوَةَ اسْمًا جَامِدًا وَاشْتَقُّوا مِنْهُ الِافْتِعَالَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكَلُّفِ كَمَا اشْتَقُّوا مِنِ اسْمِ الْخَرِيفِ اخْتُرِفَ، وَمِنَ الْأُسْوَةِ ائْتَسَى، وَكَمَا اشْتَقُّوا مِنِ اسْمِ النَّمِرِ تَنَمَّرَ، وَمِنَ الْحَجَرِ تَحَجَّرَ. وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ الْقُدْوَةُ اسْمَ مَصْدَرٍ لِاقْتَدَى. يُقَالُ: لِي فِي فُلَانٍ قُدْوَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: ٦] .
وَفِي قَوْلِهِ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بأنّ محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ إِلَّا عَلَى سُنَّةِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ وَأَنَّهُ مَا كَانَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ.
وَأمر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهُدَاهُمْ يُؤْذِنُ بِأَنَّ اللَّهَ زَوَى إِلَيْهِ كلّ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِمُ الَّتِي اخْتَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِهَا سَوَاءٌ مَا اتَّفَقَ مِنْهُ وَاتَّحَدَ، أَوِ اخْتَلَفَ وَافْتَرَقَ، فَإِنَّمَا يُقْتَدَى بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ فَضَائِلِ الرُّسُلِ وَسِيَرِهِمْ، وَهُوَ الْخُلُقُ الْمَوْصُوفُ بِالْعَظِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَم: ٤] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute