للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نَسْخًا تَسَامُحٌ، وَإِنَّمَا هُوَ انْتِهَاءُ مَوْرِدِ الْحُكْمِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّسَامُحِ فِي الْأَسْمَاءِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ أَسْلَمَ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَذَكَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرْمَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي خُطْبَتِهِ، وَقَدْ تَعَطَّلَ حِينَئِذٍ الْعَمَلُ بِحُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، إِذْ لَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ يَقْصِدُ الْحَجَّ. فَمَعْنَى نَسْخِ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ قَدِ انْقَضَتْ كَمَا انْتَهَى مَصْرِفُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ بِالْإِجْمَاعِ لِانْقِرَاضِهِمْ.

وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ.

إِنْحَاءٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِظْهَارٌ لِظُلْمِهِمْ بَعْدَ أَنْ بَكَّتَهُمْ بِتَقْرِيرِ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ أَهْلِ السَّرِيَّةِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ فِيهِ كَانَ عَنْ خَطَأٍ فِي الشَّهْرِ أَوْ ظَنِّ سُقُوطِ الْحُرْمَةِ بِالنِّسْبَةِ لِقِتَالِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ اسْتَعْظَمُوا فِعْلًا وَاسْتَنْكَرُوهُ وَهُمْ يَأْتُونَ مَا هُوَ أَفْظَعُ مِنْهُ، ذَلِكَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَيْسَ لِذَاتِ الْأَشْهُرِ، لِأَنَّ الزَّمَانَ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا حُرْمَتُهُ تَحْصُلُ بِجَعْلِ اللَّهِ إِيَّاهُ ذَا حُرْمَةٍ، فَحُرْمَتُهُ تَبَعٌ لِحَوَادِثَ تَحْصُلُ فِيهِ، وَحُرْمَةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِمُرَاعَاةِ تَأْمِينِ سَبِيلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمُقَدِّمَاتِهِمَا وَلَوَاحِقِهِمَا فِيهَا، فَلَا جَرَمَ أَنَّ الَّذِينَ استعظموا حُصُول الْقَتْل فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَاسْتَبَاحُوا حُرُمَاتٍ ذَاتِيَّةً بِصَدِّ الْمُسْلِمِينَ، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْكَعْبَةَ حَرَامًا وَحَرَّمَ لِأَجْلِ حَجِّهَا الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَأَخْرَجُوا أَهْلَ الْحَرَمِ مِنْهُ، وَآذَوْهُمْ، لَأَحْرِيَاءُ بِالتَّحْمِيقِ وَالْمَذَمَّةِ، لِأَنَّ هَاتِهِ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ كُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ لِذَاتِهَا لَا تَبَعًا لِغَيْرِهَا. وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ جَاءَ يَسْأَلُهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ هَلْ يُنَجِّسُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ عَقِبَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «عَجَبًا لَكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ تَسْتَحِلُّونَ دَمَ الْحُسَيْنِ وَتَسْأَلُونَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ» . وَيَحِقُّ التَّمَثُّلُ هُنَا بِقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:

أَتَغْضَبُ إِنْ أُذُنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا ... جَهَارًا وَلَمْ تَغْضَبْ لِقَتْلِ ابْنِ خَازِمِِِ