قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النّور المبين، وهو الشّفاء النّافع، عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن اتّبعه». وروي عن ابن مسعود أيضا قال: حبل الله الجماعة. والمعنى متقارب متداخل في كلّ ما ذكر، فإنّ الله تعالى يأمر بالألفة، وينهى عن الفرقة، فإنّ الفرقة هلكة، والجماعة نجاة. ورحم الله ابن المبارك؛ حيث قال:[البسيط]
إنّ الجماعة حبل الله فاعتصموا... منه بعروته الوثقى لمن دانا
وعلى كلّ ففيه استعارة، حيث شبّه القرآن بالحبل، واستعير المشبّه به-وهو الحبل-للمشبّه -وهو القرآن-على سبيل الاستعارة التّصريحية، والجامع بينهما النّجاة في كلّ.
{وَلا تَفَرَّقُوا:} ولا تختلفوا في الدّين، كما اختلف من قبلكم من اليهود، والنّصارى. فعن معاوية؛ قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطيبا، فقال:«ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملّة، وإنّ هذه الأمّة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النّار وواحدة في الجنّة، وهي الجماعة». رواه أحمد، وأبو داود برقم [٤٥٩٧]. وزاد في رواية:«وإنّه سيخرج من أمّتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق، ولا مفصل إلاّ دخله». هذا؛ وفي رواية عن ابن عمر-رضي الله عنهما-عن النبي صلّى الله عليه وسلّم:«وإنّ بني إسرائيل تفرّقت اثنتين وسبعين ملّة، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين ملّة، كلّهم في النّار إلاّ ملّة واحدة». قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال:«ما أنا عليه، وأصحابي».
بعد هذا: أصول الفرق ستّ: الحروريّة، والقدريّة، والجهميّة، والمرجئة، والرافضة والجبريّة.
هذه أصول الفرق الضّالّة، وقد انقسمت كلّ فرقة إلى اثنتي عشرة فرقة، فصارت اثنتين وسبعين فرقة.
انتهى قرطبي. وقد فصّل-رحمه الله تعالى-هذه الفرق تفصيلا واسعا، وخذ ما يلي:
عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرّقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم. ويكره لكم ثلاثا: قيل، وقال، وكثرة السّؤال، وإضاعة المال». أخرجه مسلم.
فأوجب الله علينا التمسّك بكتابه، وسنّة نبيه، والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع، والمحبّة، والتآلف، وعدم المنازعات في الأشياء الباطلة، التي لا تمتّ إلى الدّين بصلة، وليس فيه دليل على الاختلاف في فروع الشّريعة، فإن ذلك ليس اختلافا؛ إذ الاختلاف ما يتعذّر من الائتلاف، والجمع. وأما حكم مسائل الاجتهاد، فإنّ الاختلاف فيها بسبب بيان الأحكام، واستخراج معاني العبادة، فليس اختلافا، وما زالت الصحابة والتابعون لهم بإحسان يختلفون في أحكام الحوادث: وهم مع ذلك متآلفون متحابّون. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:«اختلاف أمّتي رحمة». انتهى قرطبي بتصرف.