إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة، فبقوا فقراء، وهو فحوى قوله تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} يعني: سفرا للتسبب في طلب المعاش، والضرب في الأرض: هو السّفر، قال تعالى في سورة (النساء) رقم [١٠١]: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ،} وقال جلّ ذكره في سورة (المزمل): {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ}.
هذا والحصر: المنع، والحبس، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وهو يحتمل أن يكون من الرباعي «أحصر» ومن الثلاثي «حصر» وقال أبو عبيدة، والكسائي: أحصر بالمرض، وحصر بالعدو، وفي المجمل لابن فارس على العكس؛ فحصر بالمرض، وأحصر بالعدو، وقالت طائفة: يقال: أحصر فيهما جميعا من الرباعي، حكاه أبو عمر، والصحيح أنهما يستعملان فيهما، وهو ما قدمته أولا، قال القرطبي-رحمه الله تعالى-:
الأكثر من أهل اللغة على أن حصر في العدو، وأحصر في المرض، وأصل الكلمة من الحبس، ومنه: الحصير للذي يحبس نفسه على البوح بسره، والحصير الذي يجلس عليه لانضمام بعض طاقات القش إلى بعض، هذا، ويقال: ألحف، وأحنى، وألحّ في المسألة سواء، قال بشار بن برد الأعمى: [الرجز]
الحرّ يلحى، والعصا للعبد... وليس للملحف مثل الرّدّ
واشتقاق الإلحاف من اللّحاف، سمي بذلك لاشتماله على وجود الطّلب في المسألة، كاشتمال اللحاف من التغطية، أي: هذا السائل يعمّ الناس بسؤاله، فيلحفهم بذلك، ومنه قول ابن أحمر: [الوافر]
فظلّ يحفّهنّ بقفقفيه... ويلحفهنّ هفهافا ثخينا
يصف ذكر النعام، يحضن بيضه بجناحيه، ويجعل جناحه لها كاللحاف، وهو رقيق مع ثخنه.
هذا والحصير: الملك؛ لأنه كالمحبوس من وراء حجاب، قال لبيد-رضي الله عنه-: [الكامل]
وقماقم غلب الرّقاب كأنّهم... جنّ لدى باب الحصير قيام
والإلحاف في المسألة مع الغنى عنها حرام، لا يحلّ، فقد روى أبو هريرة-رضي الله عنه-، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سأل النّاس أموالهم تكثّرا، فإنّما يسأل جمرا، فليستقلّ أو ليستكثر» أخرجه مسلم.
وعن ابن عمر-رضي الله عنهما-: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتّى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم» أخرجه البخاريّ، ومسلم.
{يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ} أي: بحالهم. {أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أي: إنّهم من تركهم السؤال، والتوكل على الله، والقناعة، والرضا بقضاء الله، وقدره يظنّهم الجاهل بحالهم أغنياء. هذا؛