فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة، فتبعه عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-. قال عبد الله: لم يحضر معه أحد غيري، قال: فانطلقنا حتى إذا كنّا بأعلى مكة دخل نبي الله صلّى الله عليه وسلّم شعبا، يقال له:
شعب الحجون، وخطّ لي خطا، وأمرني أن أجلس فيه، وقال:«لا تخرج منه؛ حتى أعود إليك». فانطلق حتى قام عليهم، فافتتح القرآن.
فجعلت أرى مثل النسور تهوي، وتمشي في رفرفها، وسمعت لغطا شديدا؛ حتى خفت على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وغشيته أسودة كثيرة (جماعة) حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم مع الفجر، فانطلق إليّ، فقال لي:«أنمت؟».
فقلت: لا والله يا رسول الله! ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس؛ حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول لهم: اجلسوا، فقال:«لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم». ثم قال:«هل رأيت شيئا؟». قلت: نعم يا رسول الله! رأيت رجالا سودا عليهم ثياب بيض قال: «أولئك جن نصيبين (والأصح: جن نينوى) سألوني المتاع (والمتاع: الزاد) فمتعتهم بكل عظم حائل، وروثة، وبعرة».
فقالوا: يا رسول الله يقذرها الناس علينا، فنهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يستنجى بالعظم، والروث.
فقلت: يا رسول الله! وما يغني عنهم ذلك؟ فقال:«إنهم لا يجدون عظما إلاّ وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلاّ وجدوا فيها حبها يوم أكلت». فقلت: يا رسول الله سمعت لغطا شديدا. فقال:
«إنّ الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم، فتحاكموا إليّ، فقضيت بينهم بالحق».
ثم تبرز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأتاني، فقال:«هل معك ماء؟». قلت: يا رسول الله! معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر، فاستدعاه، فصببت على يديه، فتوضأ، وقال:«ثمرة طيبة، وماء طهور». قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخا شمطا من الزّط، فأفزعوه حين رآهم، ثم قال: اظهروا، فقيل له: إنّ هؤلاء قوم من الزّط، فقال: ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن. قلت: حديث الوضوء بنبيذ التمر ضعيف ذكره البيهقي في كتابه «الخلافيات» بأسانيده، وأجاب عنها كلها.
هذا؛ واختلف في عدد أولئك الجن، قال ابن عباس-رضي الله عنهما-كانوا سبعة من جن نصيبين، فجعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسلا إلى قومهم، وقال آخرون: كانوا تسعة، وروي عن زر بن حبيش قال: كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن. وروي: أنّ الجن ثلاثة أصناف: صنف منهم لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف على صور الحيات، والكلاب، وصنف يحلون، ويظعنون. ونقل بعضهم أنّ أولئك الجن كانوا يهودا، فأسلموا. قالوا: وفي الجن ملل كثيرة مثل الإنس، ففيهم اليهود، والنصارى، والمجوس، وعبدة الأصنام، وفي مسلميهم مبتدعة، ومن يقول بالقدر، وخلق القرآن، ونحو ذلك من البدع، والمذاهب. وأطبق المحققون على أنّ الكل مكلفون. سئل ابن عباس-رضي الله عنهما-: هل للجن ثواب؟ قال: نعم لهم ثواب، وعليهم عقاب. انتهى. خازن، وقرطبي بتصرف.