هَذَا الْخَلْقِ مِنَ الْغَرَابَةِ إِذْ هُوَ إِيجَادُ الضِّدِّ وَهُوَ نِهَايَةُ الْحَرَارَةِ مِنْ ضِدِّهِ وَهُوَ الرُّطُوبَةُ. وَهَذَا هُوَ وَجْهُ وَصْفِ الشَّجَرِ بِالْأَخْضَرِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَخْضَرِ اللَّوْنَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَازِمُهُ وَهُوَ الرُّطُوبَةُ لِأَنَّ الشَّجَرَ أَخْضَرُ اللَّوْنِ مَا دَامَ حَيًّا فَإِذَا جَفَّ وَزَالَتْ مِنْهُ الْحَيَاةُ اسْتَحَالَ لَوْنُهُ إِلَى الْغَبَرَةِ فَصَارَتِ الْخُضْرَةُ كِنَايَةً عَنْ رُطُوبَةِ النَّبْتِ وَحَيَاتِهِ. قَالَ ذُوُ الرمة:
وَلما تمنّت تَأْكُلُ الرُّمَّ لَمْ تَدَعْ ... ذَوَابِلَ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَا خُضْرَا
وَوَصْفُ الشَّجَرِ وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ شَجَرَةٍ وَهُوَ مُؤَنَّثُ الْمَعْنَى بِ الْأَخْضَرِ بِدُونِ تَأْنِيثٍ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ الْمَوْصُوفِ بِخُلُوِّهِ عَنْ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ وَهَذِهِ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَأَمَّا أَهْلُ الْحِجَازِ فَيَقُولُونَ: شَجَرٌ خَضْرَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: لَآكِلُونَ
مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ
[الْوَاقِعَة: ٥٢- ٥٤] .
وَالْمُرَادُ بِالشَّجَرِ هُنَا: شَجَرُ الْمَرْخِ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ) وَشَجَرُ الْعَفَارِ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ) فَهُمَا شَجْرَانِ يُقْتَدَحُ بِأَغْصَانِهِمَا يُؤْخَذُ غُصْنٌ مِنْ هَذَا وَغُصْنٌ مِنَ الْآخَرِ بِمِقْدَارِ الْمِسْوَاكِ وَهُمَا خَضْرَاوَانِ يُقْطُرُ مِنْهُمَا الْمَاءُ فَيُسْحَقُ الْمَرْخُ عَلَى الْعَفَارِ فَتَنْقَدِحُ النَّارُ، قِيلَ: يُجْعَلُ الْعَفَارُ أَعْلَى وَالْمَرْخُ أَسْفَلَ، وَقِيلَ الْعَكْسُ لِأَنَّ الْجَوْهَرِي وَابْن السَّيِّد فِي «الْمُخَصَّصِ» قَالَا: الْعَفَارُ هُوَ الزَّنْدُ وَهُوَ الذَّكَرُ وَالْمَرْخُ الْأُنْثَى وَهُوَ الزَّنْدَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : الْمَرْخُ الذَّكَرُ وَالْعَفَارُ الْأُنْثَى، وَالنَّارُ هِيَ سِقْطُ الزَّنْدِ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ عِنْدَ الِاقْتِدَاحِ مُشْتَعِلًا فَيُوضَعُ تَحْتَهُ شَيْءٌ قَابِلٌ لِلِالْتِهَابِ مِنْ تِبْنٍ أَوْ ثَوْبٍ بِهِ زَيْتٌ فَتُخْطَفُ فِيهِ النَّارُ.
وَالْمُفَاجَأَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ دَالَّةٌ عَلَى عَجِيبِ إِلْهَامِ اللَّهِ الْبَشَرَ لِاسْتِعْمَالِ الِاقْتِدَاحِ بِالشَّجَرِ الْأَخْضَرِ وَاهْتِدَائِهِمْ إِلَى خَاصِّيَّتِهِ.
وَالْإِيقَادُ: إِشْعَالُ النَّارِ يُقَالُ: أَوْقَدَ، وَيُقَالُ: وَقَدْ بِمَعْنًى.
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِك واستمراره.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute