بَيْنَهُمَا مِمَّا اقْتَضَى جَمِيعُهُ الْوَعْدَ بِنَصْرِهِ وَظُهُورِ أَمْرِهِ وَفَوْزِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ جَاءَ مِنَ اللَّهِ إِلَى قَوْمٍ هُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَأَنَّ الَّذِي رَحِمَهُ فَآتَاهُ الْكِتَابَ عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ مِنْهُ لَا يَجْعَلُ أَمْرَهُ سُدًى فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَحْذِيرِهِ مِنْ أَدْنَى مُظَاهَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ فِعْلَ الْكَوْنِ لَمَّا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ وَكَانَ سِيَاقُ النَّهْيِ مِثْلَ سِيَاقِ النَّفْيِ لِأَنَّ النَّهْيَ أَخُو النَّفْيِ فِي سَائِرِ تَصَارِيفِ الْكَلَامِ كَانَ وُقُوعُ فِعْلِ الْكَوْنِ فِي سِيَاقِهِ مُفِيدًا تَعْمِيمَ النَّهْيِ عَنْ كُلِّ كَوْنٍ مِنْ أَكْوَانِ الْمُظَاهَرَةِ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَالظَّهِيرُ: الْمُعِينُ. وَالْمُظَاهَرَةُ: الْمُعَاوَنَةُ، وَهِيَ مَرَاتِبُ أَعْلَاهَا النُّصْرَةُ وَأَدْنَاهَا الْمُصَانَعَةُ وَالتَّسَامُحُ، لِأَنَّ فِي الْمُصَانَعَةِ عَلَى الْمَرْغُوبِ إِعَانَةً لِرَاغِبِهِ. فَلَمَّا شَمِلَ النَّهْيُ جَمِيعَ أَكْوَانِ الْمُظَاهَرَةِ لَهُمُ اقْتَضَى النَّهْيُ عَنْ مُصَانَعَتِهِمْ وَالتَّسَامُحِ مَعَهُمْ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّ الْمُظَاهَرَةِ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْأَمْرِ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ كَصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة:
٧٣] . وَهَذَا الْمَعْنَى يُنَاسب كَون هَذِه الْآيَاتِ آخَرَ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَ مُتَارَكَتِهِ الْمُشْرِكِينَ وَمُغَادَرَتِهِ الْبَلَدَ الَّذِي يَعْمُرُونَهُ.
وَقِيلَ النَّهْيُ لِلتَّهْيِيجِ لِإِثَارَةِ غَضَبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَتَقْوِيَةِ دَاعِي شِدَّتِهِ مَعَهُمْ. وَوَجْهُ تَأْوِيلِ النَّهْيِ بِصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ أَوْ عَنْ بَعْضِ ظَاهِرِهِ هُوَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَا يُفْرَضُ وُقُوعُهُ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَنْهَى عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً على أَنه مؤوّل.
وَتَوْجِيهُ النَّهْيِ إِلَيْهِ عَنْ أَنْ يَصُدُّوهُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ كِنَايَةٌ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ مَا فِيهِ صَدٌّ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُ الْعَرَبُ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، كَنَّوْا بِهِ عَنْ: أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ. فَيَعْرِفَ الْمُتَكَلِّمُ النَّاهِي فِعْلَهُ. وَالْمَقْصُودُ: تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى الْكَافِرِينَ فِي شَيْء من شؤون الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُحَاوِلُونَ صَرْفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦] .
وَقِيلَ هُوَ لِلتَّهْيِيجِ أَيْضًا، وَتَأْوِيلُ هَذَا النَّهْيِ آكَدُ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ فِي لَا يَصُدُّنَّكَ نَهْيَ صِرْفَةٍ كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute