أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ وَلَمْ يَتَّعِظْ بِتِلْكَ الْمَوَاعِظِ وَلَا زَمَنًا قَصِيرًا بَلْ أَعْقَبَهَا بِخُرُوجِهِ هَذِهِ الْخِرْجَةَ الْمَلِيئَةَ صَلَفًا وَازْدِهَاءً. فَالتَّقْدِيرُ: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي فَخَرَجَ، أَيْ رَفَضَ الْمَوْعِظَةَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. وَتَعْدِيَةُ (خَرَجَ) بِحَرْفِ عَلى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى النُّزُولِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ خُرُوجٌ مُتَعَالٍ مُتَرَفِّعٌ، وفِي زِينَتِهِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ (خَرَجَ) .
وَالزِّينَةُ: مَا بِهِ جَمَالُ الشَّيْءِ وَالتَّبَاهِي بِهِ مِنَ الثِّيَابِ وَالطِّيبِ وَالْمَرَاكِبِ وَالسِّلَاحِ وَالْخَدَمِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ فِي سُورَةِ النُّورِ [٣١] . وَإِنَّمَا فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الزِّينَةُ مِنْ أَنَّهَا مِمَّا يَتَمَنَّاهُ الرَّاغِبُونَ فِي الدُّنْيَا. وَذَلِكَ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ الرَّفَاهِيَةِ وَعَلَى أَخْصَرِ وَجْهٍ لِأَنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَهُمْ أَمْيَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَرَغَبَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فَكُلٌّ يَتَمَنَّى أُمْنِيَةً مِمَّا تَلَبَّسَ بِهِ قَارُونُ مِنَ الزِّينَةِ، فَحَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ حُصُولِ الْإِخْبَارِ عَنِ انْقِسَامِ قَوْمِهِ إِلَى مُغْتَرِّينَ بِالزَّخَارِفِ الْعَاجِلَةِ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ، وَإِلَى عُلَمَاءَ يُؤْثِرُونَ الْآجِلَ عَلَى الْعَاجِلِ، وَلَوْ عُطِفَتْ جُمْلَةُ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِالْوَاو وبالفاء لَفَاتَتْ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ الْبَلِيغَةُ فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ إِمَّا خَبَرًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ عَنْ حَالِ قَوْمِهِ، أَوْ جُزْءَ خَبَرٍ مِنْ قِصَّتِهِ.
والَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا لما قوبلوا ب الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [الْقَصَص: ٨٠] كَانَ الْمَعْنِيُّ بِهِمْ عَامَّةَ النَّاسِ وَضُعَفَاءَ الْيَقِينِ الَّذِينَ تُلْهِيهِمْ زَخَارِفُ الدُّنْيَا عَمَّا يَكُونُ فِي مَطَاوِيهَا مِنْ سُوءِ الْعَوَاقِبِ فَتَقْصُرُ بَصَائِرُهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ إِذَا رَأَوْا زِينَةَ الدُّنْيَا فَيَتَلَهَّفُونَ عَلَيْهَا وَلَا يَتَمَنَّوْنَ غَيْرَ حُصُولِهَا فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنَّ إِيمَانَهُمْ ضَعِيفٌ فَلِذَلِكَ عَظُمَ فِي عُيُونِهِمْ مَا عَلَيْهِ قَارُونُ مِنَ الْبَذَخِ فَقَالُوا إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أَيْ إنَّهُ لَذُو بَخْتٍ وَسَعَادَةٍ.
وَأَصْلُ الْحَظِّ: الْقِسْمُ الَّذِي يُعْطَاهُ الْمَقْسُومُ لَهُ عِنْدَ الْعَطَاءِ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَا قُسِمَ لَهُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا.
وَالتَّوْكِيدُ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ كِنَايَةٌ عَنِ التَّعَجُّبِ حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ يُنْكِرُ حَظَّهُ فَيُؤَكِّدُهُ الْمُتَكَلِّمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute