وَالْعَفْوُ تَرْكُ عُقُوبَةِ الْمُذْنِبِ. وَالصَّفْحُ- بِفَتْحِ الصَّادِّ- مصدر صفح صَفْحًا إِذَا أَعْرَضَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ وَلَّاهُ مِنْ صَفْحَةِ وَجْهِهِ، وَصَفَحَ وَجْهَهُ أَيُّ جَانِبَهُ وَعَرْضَهُ وَهُوَ مَجَازٌ فِي عَدَمِ مُوَاجَهَتِهِ بِذِكْرِ ذَلِكَ الذَّنْبِ أَيْ عَدَمِ لَوْمِهِ وَتَثْرِيبِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَفْوِ كَمَا نُقِلَ عَنِ الرَّاغِبِ وَلِذَلِكَ عَطَفَ الْأَمْرَ بِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَفْوِ لَا
يَسْتَلْزِمُهُ وَلَمْ يَسْتَغْنَ بِاصْفَحُوا لِقَصْدِ التَّدْرِيجِ فِي أَمْرِهِمْ بِمَا قَدْ يُخَالِفُ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الِانْتِقَامِ تَلَطُّفًا مِنَ اللَّهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَمْلِهِمْ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أَيْ حَتَّى يَجِيءَ مَا فِيهِ شِفَاءُ غَلِيلِكُمْ قِيلَ هُوَ إِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ وَقَتْلِ قُرَيْظَةَ، وَقِيلَ الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْكِتَابِيِّينَ أَوْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَايَةٌ مُبْهَمَةٌ لِلْعَفْوِ وَالصَّفْحِ تَطْمِينًا لِخَوَاطِرِ الْمَأْمُورَيْنِ حَتَّى لَا يَيْأَسُوا مِنْ ذَهَابِ أَذَى الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ بَطَلًا وَهَذَا أُسْلُوبٌ مَسْلُوكٌ فِي حَمْلِ الشَّخْصِ عَلَى شَيْءٍ لَا يُلَائِمُهُ كَقَوْل النَّاس حَتَّى يقْضِي اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ بِتَرْكِ الْعَفْوِ انْتَهَتِ الْغَايَةُ، وَمِنْ ذَلِكَ إِجْلَاءُ بُنِيَ النَّضِيرِ.
وَلَعَلَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَعْلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ فَضِيلَةَ الْعَفْوِ أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدِيرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يَعْفُو وَيَصْفَحُ
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَدَّعُونَ لَهُ نِدًّا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ»
، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَلَوْ شَاءَ لَأَهْلَكَهُمُ الْآنَ وَلَكِنَّهُ لِحِكْمَتِهِ أَمَرَكُمْ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَكُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الِائْتِسَاءِ بِصُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحِكْمَةَ كُلُّهَا هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْخَالِقِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ. فَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ، وَجُمْلَةُ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ [الْبَقَرَة: ١١١] تَفْرِيعٌ مَعَ اعْتِرَاضٍ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْمُعْتَرِضَةَ هِيَ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ شَدِيدَتَي الِاتِّصَالِ مِنْ حَيْثُ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَالِاعْتِرَاضُ هُوَ مَجِيءُ مَا لَمْ يُسَقْ غَرَضُ الْكَلَامِ لَهُ وَلَكِنْ لِلْكَلَامِ وَالْغَرَضِ بِهِ عَلَاقَةً وَتَكْمِيلًا وَقَدْ جَاءَ التَّفْرِيعُ بِالْفَاءِ هُنَا فِي مَعْنَى تَفْرِيعِ الْكَلَامِ عَلَى الْكَلَامِ لَا تَفْرِيعَ مَعْنَى الْمَدْلُولِ عَلَى الْمَدْلُولِ لِأَنَّ مَعْنَى الْعَفْوِ لَا يَتَفَرَّعُ عَنْ وَدِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بِهِ تَفَرَّعَ عَنْ ذِكْرِ هَذَا الْوِدِّ الَّذِي هُوَ أَذًى وَتَجِيءُ الْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ بِالْوَاوِ وَبِالْفَاءِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ اعْتِرَاضًا. وَقَدْ جَوَّزَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٤٣] ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَاحْتَجَّ لَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute