للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَابْتِغَاءِ الْمَرَاضِعِ وَدَلَالَةِ أُخْتِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أُمِّهِ إِلَى أَنْ أُحْضِرَتْ لِإِرْضَاعِهِ فَأُرْجِعَ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ فَارَقَهَا بَعْضَ يَوْمٍ.

وَحَكَتْ كُتُبُ الْيَهُودِ أَنَّ أُمَّ مُوسَى خَبَّأَتْهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ خَافَتْ أَنْ يَفْشُوَ أَمْرُهُ فَوَضَعَتْهُ فِي سَفَطٍ مُقَيَّرٍ وَقَذَفَتْهُ فِي النَّهْرِ. وَقَدْ بَشَّرَهَا اللَّهُ بِمَا يُزِيلُ هَمَّهَا بِأَنَّهُ رَادُّهُ إِلَيْهَا وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا بَشَّرَهَا بِمَا سَيَكُونُ لَهُ مِنْ مَقَامٍ كَرِيمٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَحْيَ إِلَيْهَا كَانَ عِنْدَ وِلَادَتِهِ وَأَنَّهَا أُمِرَتْ بِأَنْ تُلْقِيَهُ فِي اليم عِنْد مَا ترى دَلَائِل المخافة من جواسيس فِرْعَوْن وَذَلِكَ ليَكُون إلقاؤه فِي الْيَمِّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ دَفْعًا لِلضُّرِّ الْمُحَقَّقِ بِالضُّرِّ الْمَشْكُوكِ فِيهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي يَقِينِهَا بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ.

والْيَمِّ: الْبَحْرُ وَهُوَ هُنَا نَهْرُ النِّيلِ الَّذِي كَانَ يَشُقُّ مَدِينَةَ فِرْعَوْنَ حَيْثُ مَنَازِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْيَمُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُرَادِفُ الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ فِي كَلَامِهِمْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَاءِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَبْحَرِ، فَالنَّهْرُ الْعَظِيمُ يُسَمَّى بَحْرًا قَالَ تَعَالَى وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [فاطر: ١٢] ، فَإِنَّ الْيَمَّ مِنَ الْأَنْهَارِ.

وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِثَالًا مِنْ أَمْثِلَةِ دَقَائِقِ الْإِعْجَازِ الْقُرْآنِيِّ فَذَكَرَ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» وَالْقُرْطُبِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ» يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ جَارِيَةً أَعْرَابِيَّةً

تُنْشِدُ:

أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِأَمْرِي كُلِّهِ ... قَتَلْتُ إِنْسَانًا بِغَيْرِ حِلِّهِ

مِثْلَ غَزَالٍ نَاعِمًا فِي دَلِّهِ ... انْتَصَفَ اللَّيْلُ وَلَمْ أُصَلِّهِ

وَهِيَ تُرِيدُ التَّوْرِيَةَ بِالْقُرْآنِ. فَقَالَ لَهَا: قَاتَلَكِ اللَّهُ مَا أَفْصَحَكِ يُرِيدُ مَا أَبْلَغَكِ (وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْبَلَاغَةَ فَصَاحَةً) فَقَالَت لَهُ: أَو يعد هَذَا فَصَاحَةً مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَجَمَعَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ خَبَرَيْنِ، وَأَمْرَيْنِ، وَنَهْيَيْنِ، وَبِشَارَتَيْنِ.