إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ إِلَى قَوْلِهِ: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً [الْإِسْرَاء: ٩- ١٠] ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ١٥] . وَكُلُّ هَذَا الْإِدْمَاجِ تَزْوِيدٌ لِلْآيَةِ بِوَافِرِ الْمَعَانِي شَأْنَ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَإِيجَازِهِ.
وَتَفْرِيعُ جُمْلَةِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بِالْفَاءِ بَيْنَ جُمْلَةِ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ لِتَبْتَغُوا.
وَإِضَافَةُ آيَةٍ إِلَى اللَّيْلِ وَإِلَى النَّهَارِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً، أَيِ الْآيَةُ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ، وَالْآيَة الَّتِي هِيَ النَّهَارُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ اللَّيْلِ الْآيَةَ الْمُلَازِمَةَ لَهُ وَهِيَ الْقَمَرُ، وَآيَةُ النَّهَارِ الشَّمْسُ، فَتَكُونُ إِعَادَةُ لَفْظِ (آيَةٍ) فِيهِمَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَعْنًى آخَرُ وَتَكُونُ الْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةً، وَيَصِيرُ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ تَكْوِينِ هَذَيْنِ الْخَلْقَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ. وَيَكُونُ مَعْنَى الْمَحْوِ أَنَّ الْقَمَرَ مَطْمُوسٌ لَا نُورَ فِي جِرْمِهِ وَلَكِنَّهُ يَكْتَسِبُ الْإِنَارَةَ بِانْعِكَاسِ شُعَاعِ الشَّمْسِ عَلَى كُرَتِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِ آيَةِ النَّهَارِ مُبْصِرَةً أَنَّ الشَّمْس جعل ضوؤها سَبَبَ إِبْصَارِ النَّاسِ الْأَشْيَاءَ، ف مُبْصِرَةً اسْمُ فَاعِلِ (أَبْصَرَ) الْمُتَعَدِّي، أَيْ جَعَلَ غَيْرَهُ بَاصِرًا. وَهَذَا أَدَقُّ مَعْنًى وَأَعْمَقُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بَلَاغَةً وَعِلْمًا فَإِنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ مِنْ عِلْمِ الْهَيْئَةِ، وَمَا أُعِيدَ لَفْظُ (آيَةٍ) إِلَّا لِأَجْلِهَا.
وَالْمَحْوُ: الطَّمْسُ. وَأُطْلِقَ عَلَى انْعِدَامِ النُّورِ، لِأَنَّ النُّورَ يُظْهِرُ الْأَشْيَاءَ وَالظُّلْمَةُ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ، فَشَبَّهَ اخْتِفَاءَ الْأَشْيَاءِ بِالْمَحْوِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، أَيْ جَعَلْنَا الظُّلْمَةَ آيَةً وَجَعَلْنَا سَبَبَ الْإِبْصَارِ آيَةً. وَأَطْلَقَ وَصْفَ مُبْصِرَةً عَلَى النَّهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِسْنَادًا لِلسَّبَبِ.
وَقَوْلُهُ: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ عِلَّةٌ لِخُصُوصِ آيَةِ النَّهَارِ مِنْ قَوْلِهِ: آيَتَيْنِ
وَجَاءَ التَّعْلِيلُ لِحِكْمَةِ آيَةِ النَّهَارِ خَاصَّةً دُونَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّيْلِ لِأَنَّ الْمِنَّةَ بِهَا أَوْضَحُ، وَلِأَنَّ من التنبه إِلَيْهَا يَحْصُلُ التَّنَبُّهُِِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute